رسمت بعض المسلسلات التي تناولت تاريخ الشام صورةً نمطية للمرأة، إذ حبستها داخل بيت كبير ذي جدران عالية، في منتصفه بحرة. تدور فيه أحاديث ساذجة، تصل أحياناً حد الغباء، لا يتجاوز دور المرأة خلالها حدود الحمل والولادة والطبخ..
لم تحاول هذه المسلسلات أن تقترب من المرأة ذات الهم المختلف، وكذلك لم تحاكِ حالة رجل يريد للمرأة دوراً أكبر مما سبق.. ولعل سلبية الأنثى، والفقر في إسهاماتها خلال تلك الفترة، شكلا سبباً أساسيا للنقص الذي تعكسه المسلسلات.
في العودة ثلاثة قرون من الزمن إلى كتاب "حوادث دمشق اليومية" حاولتُ أن أعيد قراءة ما كتبه البديري الحلاق عن النساء، وجدت فيه أن الصور المرسومة للمرأة لم تخرج عن إطارها الجنسي، وهي فكرة تقليدية يعاد تجديدها في كل أوان، وكان الحلاق ينعت النساء اللاتي يتحدث عنهن "ببنات الخطا" ويقصد بهن بائعات الهوى، ولم أجد في كتابه أي أثر لنوع آخر من النساء، وهو شيء متوقع، لأن النوع الآخر كان حبيس "الحرملك" ذي الجدران العالية فأنى لحلاق الوصول إليه؟
في حوادث عام 1175 هجرية يذكر البديري أن الكوارث حلت بالشام، فقد طلع نجم له ذنب من جهة الشمال، وفتك الطاعون بالأهالي، وغلت الأسعار بشكل جنوني حتى بلغ ثمن رطل الخبز "عشر مصاري"، وكذلك قَتَل شيخ التكية نفسه. أما عن الطامة الكبرى والسبب الرئيسي برأيه لما قد حل من مصائب، فيقول: "وفي تلك السنة كثرت بنات الخطا، يتبهرجن بالليل والنهار، فخرج ليلةً قاضي الشام بعد العصر إلى الصالحية، فصادف امرأة من بنات الخطا، تسمى سلمون، وهي تعربد في الطريق، سكرى ومكشوفة الوجه، وبيدها سكين. فصاح جماعة القاضي عليها، أن ميلي عن الطريق، هذا القاضي مقبل، فضحكت وهجمت على القاضي بالسكين، فأبعدها عنه أعوانه. ثم جمع القاضي الوالي والمتسلم، وذكر لهما ما وقع له مع هذه العاهرة، فقالا له هذه من بنات الخطا واسمها سلمون، وافتتن بها غالب الناس، حتى صار ينسب إليها كل حاجة أو متاع، فيقولون هذا متاع سلموني، وهذا الثوب سلموني. فأخرج المفتي فتوى بقتلها، وإهدار دمها تسكيناً للفتنة، ففتشوا عليها وقتلوها. وأرسلوا منادياً ينادي في البلد، أن كل من رأى بنتاً من بنات الخطا والهوى، فليقتلها ودمها مهدور، فسافر عدد منهن وانزوى البقية، ومع ذلك فالطاعون مخيم في الشام وضواحيها، مع الغلاء ووقوف الأسعار".
يستغرب الحلاق استمرارَ الطاعون والغلاء رغم القضاء على بنات الخطا! ويذكر لنا في أحداث عام 1161 هجرية ما يلي: "وفي تلك الأيام ازداد الفساد وظلم العباد، وكثرت بنات الهوى في الأسواق في الليل والنهار، ومما اتفق في حكم أسعد باشا في هذه الأيام أن واحدة من بنات الهوى عشقت غلاماً من الأتراك. فمرض، فنذرت على نفسها إن عوفي من مرضه لتقرأن له مولداً عند الشيخ أرسلان. وبعد أيام عوفي من مرضه، فجمعت بنات الخطا في البلد، ومشين في أسواق الشام، حاملات الشموع والقناديل والمباخر، ويغنين ويصفقن بالكفوف ويدققن بالدفوف، والناس وقوف في صفوف، تتفرج عليهن، وهن مكشوفات الوجوه سادلات الشعور، وما ثم ناكر لهذا المنكر، والصالحون يرفعون أصواتهم ويقولون: الله أكبر". ولا يذكر الحلاق لماذا ثارت حمية القوم ضد سلمون حتى قتلوها، ولم يحصل الأمر ذاته مع الجارية التي أحبت غلاماً تركياً فمن الواضح أن فجور الثانية كان أكثر بجمعها كل البنات، وتظاهرهن "السافر" في المدينة بالمباخر والشموع والدفوف.
لا يلبث المزاج العام أن يتغير على بنات الخطا، فيقص علينا الحلاق في أحداث 1162 هجري أنه "في ذلك اليوم أمر الحاكم بأن يُخرجوا بنات الهوى، من البلد إلى الخارج، وأظهر أنه يريد أن ينفيهن إلى بلاد أخرى، ونبّه على مشايخ الحارات أن من وجد في حارته ذات شبهة، لا يلومن إلا نفسه، ثم نادى منادٍ أنَّ النساء لا يسبلن على وجوهن مناديل، إلا حرم الباشا ونساء موسى كيخية! ثم شرع أعوان الحاكم بالتفتيش وشددوا، فانفرجت بعض الكربة، ثم ما بقي هذا التشديد غير جملة أيام، إلا وقد رأينا البنات المذكورات يمشين كعادتهن في الأزقة والأسواق وأَزْيَد، ورجعن إلى البلد، ورتب الحاكم في كل شهر على كل واحدة عشرة قروش وجعل عليهم شوباصياً، والله المستعان".
يظهر هذا الخبر أن الحاكم تعامل مع جميع نساء البلد كمومسات، إلا حرم الباشا ونساء الكيخيا، لكن بنات الخطا كن أقوى من أمر الحاكم فعدن، واضطر أن ينظم لهن المهنة بتعيين مراقب (شوباصي) وتكليفهن ضريبياً بترتيب عشرة قروش على الواحدة، ويذكر الحلاق أن "ثمن ثلاثة أرطال من الدبس بقرش، ورطل العسل بقرش، ومَد الملح بلغ سعره نصف قرش، وغرارة القمح بلغت اثنين وخمسين قرشاً"، ويمكن مقارنة هذه الأسعار بفداحة الضرائب المفروضة على بنات الخطا أو قد يرمز هذا إلى رواج بضاعتهن في ذلك الوقت.
تحدث البديري الحلاق عن نوع من النساء القويات الغانيات، بما يختلف كثيراً عن زوجة المختار "أبي حاتم" في مسلسل ليالي الصالحية، التي زوجت زوجها لامرأة أخرى حتى لا تذهب "المخترة" من عائلته، وليست نساء رواية الحلاق مثل سعدية زوجة المعلم عمر في المسلسل ذاته، التي بدت محبة تصون غياب زوجها، فيذكر البديري في أحداث عام 1163 هجرية: "وفي جمادى الآخرة قُتل رجل في محلة العقيبة، فسألتُ عن السبب، فقيل إنه رجل يشتغل بالفرن، فمضى إلى فرنه آخر الليل وسكّر باب داره وترك زوجته نائمة، فلما وصل إلى فرنه واستقر برهة، جاءه نذير، وأخبره إنه رأى رجالاً دخلوا داره، فجاء يعدو بالحال، فوجد السكرة مفتوحة، فجسّ الباب فوجده مدربساً، فصاح على زوجته فأجابته، فقال لها: مَن عندك؟ فصاحت: واعرضاه من يكون عندي؟ فقال لها افتحي الباب، فتعللت بعدم قدرتها على فتح الباب، فصاح بشدة، وإذا فُتح الباب وخرج منه رجال، فضربه أحدهم بطبنجة جاءت في صدره فقتلته حالاً، فلما طلع النهار أخبروا حضرة وزير الشام أسعد باشا، فأحضر المرأة بين يديه، وسألها فأنكرت، فأمر بحبسها، فحبست وذهب دم زوجها هدراً.
ويذكر في أحداث 1164 هجري: "في تلك الأيام أيضاً قَتَلَ كرديٌ زوجته في محلة سوق ساروجا. وسبب ذلك أنه كان حاجاً، ولما جاء وجدها متغيرة في أحوالها، وكانت ذات حسن وجمال فذبحها ولم يبال بأحد".
يوصل البديري لنا فكرة أن النساء لم يكن معصومات في تلك الفترة لا زوجة الحاج الكردي ولا امرأة الفران، ولعل الفصل الشديد بين الجنسين خلق فضولاً شديداً عند كل جنس لاكتشاف الآخر..
الجميل في هذا النص ورود بعض المفردات الشامية التي ما زالت مستخدمة حتى الآن مثل "سكرة" وهي قفل الباب، "مدربساً" ولاحظ التنوين أي مقفولاً من الداخل، و"مصاري" وغيرها ما يعني أن الكاتب كان يكتب أثناء حلاقته للزبائن فجاءت نصوصه مباشرة وعفوية.