icon
التغطية الحية

الشاعر السوري فادي أبو ديب.. سيرة بشرية ولغة رؤيا وإشارات

2022.08.12 | 07:48 دمشق

فادي أبو ديب
+A
حجم الخط
-A

"تحنّنت عليّ | أنا الذي في كل لحظة آتي من سفر بعيد

قالت: | "وحياة هالبحر بعرف شو عم تكتب"

تكتب ما يصلح أن تقرأه لي ولك | يوم مسيرنا اللاجسماني | تدوّن ما يلذّ للقلب | تحت سماء ما بعد الموت".

كعادتنا في إضاءة أعمال شعرية، نبحث في الديوان عن مفاتيح للدخول، فدائما ما يترك الشاعر مفاتيحه متبعثرة بين نصوصه ولا بدّ أن يفعل ذلك حتى ولو سهوا أو من غير قصد؛ كعادتنا تلك نضع المقتبس أعلاه مفتاحا للبدء بقراءة ديوان الشاعر السوري فادي أبو ديب (الذي يعيش في السويد) المسمّى بـ "السيرة النجمية لقسطون الذاهل" الصادر عن دار فضاءات في الأردن. ففي هذا المقطع (ص 24) نحن أمام صياغة شعرية لقضية نقدية بالدرجة الأولى، وهي علاقة المتلقي بالنصّ. هنا تظهر ذات الشاعر (أنا الذي آتي) من جهة، ومن جهة ثانية ذات المتلقي على الطرف المقابل الذي يروي الشاعر ما قاله له. والمتلقي هنا حسب النصّ امرأة (تحنّنت) على الشاعر وأخبرته بلغة عاطفية وبقسَمٍ شعريّ يجمع بين المنطوق الشفوي (باللغة العامية) والصيغة المجازية الشعرية لتقول له أنا أعرف ما تكتب.

هذا إقرار شعريّ نلمس من ورائه فكرة المتلقي الذي يقيم علاقة وجدانية مع شاعره ويتابعه بتفاصيله وحركاته وسكناته إلى درجة أنه يستطيع تخمين ما يدور في ذهنه الآن! نحن هنا نتجاوز الإحالة الشخصية في النص لنستنبط منها مقولة شعرية تصوغ فكرة نقدية. بطبيعة الحال فهذا المتلقي قارئ نوعيّ للشعر مهمته اكتشاف ذاته من خلال حواريته مع ذات الشاعر. وفعل (تحنّنتْ) فيه سيل عاطفيّ شفاف يدل على أن الشاعر يحسّ بحاجته إلى أن يشرطه القارئ بطاقته الوجدانية الداخلية وليس بعقله فقط، خاصة أن الشعر خطاب لا يتجه إلى عقل القارئ وحده بل إلى كلية أحاسيسه ومشاعره وتفكيره. وسوف يكون حنانٌ عميم حين يفعل المتلقي ذلك. لا سيما أن هذا الشاعر قادم (كل لحظة من سفر بعيد) وهو بحاجة إلى قارئ يشعره بأن سفره وجهده لم يذهبا عبثا بل ثمة من ينتظر خطابه لشترك معه فيه. وهذا القدوم كل لحظة من السفر لا يعني معنى واقعيا فلا أحد يسافر في كل لحظة ويأتي من سفر بعيد، لذلك فالسفر هنا أبعد من أن يكون سفرا ماديا مرئيا، وكما يعرف الشعراء فهم دائما مسافرون بخيالهم وتفكيرهم الشعري وتأملاتهم، وهم بحاجة لهذا السفر لأنه ينوّع خيالهم ولغتهم. وهذا السفر اللاماديّ يقابله (المسير اللاجسماني) الذي يأتي على لسان المتلقي! إذا ثمة سفران لا جسميان واحد من الشاعر والآخر من قارئه.

سنرى أيضا في المقطع السابق أن القارئ يخبر الشاعر بما يكبته: "تكتب ما يصلح أن تقرأه لي ولك، يوم مسيرنا اللاجسماني" ليعمّق أكثر من المناطق المشتركة بين الشاعر والمتلقي، فالشاعر يكتب ما يصلح ليقرأه للمتلقي ولنفسه أيضا.

بقي لدينا عنصر مهمّ في المثال يصلح أيضا ليكون كلاما عاما حول الديوان كله، بل حول ما يكتبه فادي بصورة عامة، المتكلم في النص يقول: "تدوّن ما يلذّ للقلب تحت سماء ما بعد الموت"، إن تدوين الشاعر لما يخلق اللذة في نفس المتلقي هو أيضا قضية نقدية تصبّ في تحقيق الشعر لبعض الوظائف المتعددة ومن بينها ما يسمى (لذة النصّ)، وهذه اللذة قابلة لتكون فعالة في أي ظرف.

نخلص من المثال للقول إن ما يكتبه فادي لا يلبي حاجات مادية جسمانية، بل يطلق لغته لتكون بمستوى أن تسعف الكائن على العلوّ في أحواله وروحه بحيث يبقى النص قابلا لخلق اللذة حتى في مرحلة فقدانه لكل علائق مادية.

قصائد فادي أبو ديب قادمة من دهرٍ بعيد، من ملكوت السماء، وإشراقة أخيرة قبل مجيء القيامة، من معمودية العناصر، ومن الصفير السرمديّ

قصائد هذا الديوان تمثل عفويّ أو متعمّد لكل العناصر التي كشفناها في هذا المثال. ويمكننا القول بناء عليه، ترتكز قصائد فادي على لغة إشارية وعلامات دالة على انشغال الشاعر بقضايا ما بعد جسمانية، تنتقل بين تأملات محمولة على لغة متأثرة بلغة اللاهوت ورموزه، وتثري هذه الرموز لغة فادي بما هو من جنس هذه اللغة نفسها، أي أنه يعتمد فعالية لغوية ملأى بالرموز والإحالات الكثيفة التي لا تسلم نفسها لأي قارئ ببساطة.

وقصائده دائما قادمة من دهرٍ بعيد، من ملكوت السماء، وإشراقة أخيرة قبل مجيء القيامة، من معمودية العناصر، من الصفير السرمديّ... الخ

ورغم أن الديوان يتخذ شكل كتاب متكامل ذي بناء متصاعد من مقطع إلى آخر، فهو أيضا (سيرة قسطون الذاهل)، لكن هذه السيرة ليست سيرة سديمية ولا ميتافيزيقية بل هي سيرة كائن له ملامح بشرية على أرض الواقع، له ذكرياته ووقائعه الماضية والراهنة، له أسفاره وتنقلاته وثقافته وأنثاه، لكن هذا الكائن ينظر إلى ذاته بمنظور من يريد رفع قيمة الإنسان إلى أن يكون واعيا للوجود والأشياء بصورة قائمة على التفكير والتفلسف والتصوف، إنه كائن يعيش تفاصيل حياته كما البشر في الوقت الذي يستخلص من تفاصيله أمثولة ونموذجا ذا خطاب يبدو للوهلة الأولى أنه ميتافيزيقيّ.

قسطون الذاهل هذا هو الشاعر، وهو القارئ، وهو أي واحد منا، لأن رصد مسار هذه السيرة يكشف لنا أن قسطون يجلس في البيت وعلى الشرفات وعلى شاطئ البحر وفي المساء وعند الصباح ويمسك الكتاب وينظر في الغابات والنجوم ويكلمنا عن حبيبته وعن ذكريات طفولته... الخ لكن هذه السيرة سيرة (نجميّة) أي لا يمكن اكتشافها هكذا تحت ضوء الشمس بسهولة، يختار صفة (النجمية) لقسطون (الذاهل) ليضعنا في مناخ لغويّ غامضٍ ليليّ، حيث في الليل تستغرق الروح في تأملاتها الصامتة برعاية نجوم قصيّة. ولأن هذه السيرة ليست نصا روائيا فنحن أمام توظيف تقنية السيرة في كتابة نصّ شعريّ طويل مليء بالأحلام والتكوينات الشبيهة بلغة الرؤيا والحلم.

سيرة قسطون إذا هي سيرة الشاعر في مقاطع زمنية محددة في حياته، ومشاهداته العلنية والخفيّة، المحمّلة بمعاني التاريخ وتجارب الروح والإيمان والشكّ والذكريات...

"ومن نافذة حجرتنا تلك | رأيتك على قمر آخر | تخبزين خبزنا الجوهريّ | وتودعينه صفحة الماء | تحت الشمس الجبارة الضياء | من هناك | تفرستِ في وجهي البعيد | وابتسمتِ، وشفتاكِ تهمسان "قادمة" |

وأنت تصنعين خبزنا | كنت ألاطف البلّور | أسايرُ الضوء السيال في شرايينه المتغضّنة |

أرى عوالم ضمن العوالم | وأتحسس طعم الخبز الذي لم أعرف" (ص 157)

يضعنا هذا الشعر أمام حالة هي مزيج من الواقع والتخيل، فالحديث عن امرأة يراها من نافذة (حجرتنا) لكنه يراها على قمر آخر! وبينما هي تصنع الخبز يساير هو الضوء السيال في شرايين البلور! أما هذا (الخبز الجوهريّ) فهو مفتاح آخر من مفاتيح فهم النص الشعري عند فادي، فهذا الخبز ومع أنه يخبز الآن كحدثٍ على يدي المرأة، لكن وصف الجوهريّ مستمد هنا من صلاة بعض المذاهب المسيحية، ودائما يثار السؤال اللاهوتي: هل هو خبز مادي، أم خبز المستقبل أي خبز آخر الزمان، خبزُ الدهر البعيد؟ وكلها تعبيرات مستمدة من تأويل معنى (الخبز الجوهري) التي ترد في الصلاة. ويختلف معنى الخبز الفاني عن الخبز الجوهري المقصود بالنصّ الديني والشعري، في إشارة مكملة لإشارات فادي الأخرى والكثيرة، أنه مهتمّ ليس فقط بالماديّ بل وبصورة أساسية بالجوهريّ والروحانيّ، لذلك فهو يخفي معاني ويعلن معاني أخرى كي لا يترك كل شيء مشروحا للقارئ. في النص السابق وإذا قلنا إنه يقصد الخبز الجوهري، خبز الملكوت القادم، فسوف نفهم أكثر معنى (ابتسمتِ وشفتاك تهمسان: "قادمة") ليكون لدينا تمثل بنيويّ ودلاليّ بين خبز الملكوت القادم، وبين قدوم هذه السيدة!

(الخبز الجوهري) ليست العبارة الوحيدة التي تحيل إلى اللاهوت، بل إنها واحدة من مئات العبارات المستعملة في قصائد فادي، وهي مستعملة ليس من باب التأثر الشكلي بالخطاب الروحانيّ اللاهوتيّ بقدر ما هي نابعة من التجربة الذاتية والرؤيا الفكرية الإيمانية التي تحرك لغة فادي أبو ديب. لذلك قد لا تبدو كلمة الاستعمال هنا واضحة إلا إذا قصدنا بها (كيف يستعمل الشاعر اللغة). ومن أهمّ تعريفات الشعر الآن أنه الاستعمال الخاصّ للغة لدى كل شاعر، فإذا لم يكن للشاعر استعمال خاص به فلن يكون شاعرا مجددا مهما كتب.

سوف تطالعنا لغة فادي في كل قصائده مثل هذه العبارات والمفردات: (حصاد الحنطة، الزرع، الزراع، يسوع النجار، المياه، مستقر الأنوار، موائد، مائدة الكأس، بركات الدهر، الدهر الآتي أو البعيد، الأيقونة، المثلث الأقدس، أطوار النور، الأحد الأبدي...) وكلها تدل بوضوح على امتلاك فادي لمعجم لاهوتيّ هو في حد ذاته يحمل الكثير من إمكانية التأويل الشعريّ اللانهائي، فلغة اللاهوت أو لغة كثير من النصوص الإنجيلية تبدو ذات خطاب رمزيّ يعتمد المجاز والرمز وهما من طبيعة عمل الشعر.

يقول في مقطع آخر (ص 256):

"سألني | من دون أن يلتفت | يمرّر إصبعه على قشرة القمر:

أين تجلس؟

أنتظرُ | والبيت مطفأ | أراقب عقلي يسرح | بين فروع الزيتون الهائجة |

خلعت النوافذ | ليدخل والداي وإخوتي | حين يقذف الموج زبده نحو النجوم

قال: تعال انتظر بجانبي

أنا على ضفة عقلك المتدفق بين الوديان"

وجريا على لغته وأسلوبه، يجمع بين الواقع واللاواقع، بين الملموس والمجرد، ليضع القارئ في حيرة إبداعية ويحرضه على ممارسة التأويل والتفكير فيما وراء اللغة الظاهرة.

إن ما يكتبه فادي، وهو يكتب قصيدة النثر، يعيد فيه الاعتبار لمفهوم (الرؤيا) في الشعر! خاصة وأن قصيدة النثر ولدت عربيا ومن بين أسباب ولادتها الموقف المضاد للرؤيا التي كانت سائدة في شعر جيل الرواد والآباء المؤسسين لقصيدة التفعيلة، فتم رفض لغة الرؤيا والنبوءة، وتمت الدعوة إلى لغة التفاصيل والحياة اليومية لتكون مناسبة لطبيعة النثر ومشروع كتابة الشعر بلسان يوميّ قريب للناس.

فادي أبو ديب وبحكم مشاغله اللاهوتية الفلسفية ومن غير أن يخطط لهذه اللغة التي يكتب ها، يعيد الاعتبار إلى الرؤيا ويؤكد على أنها ليست سلبية دائما بل تحتاج لمن يعرف كيف يوظفها في الشعر، خاصة حين تكون الكتابة الشعرية بحد ذاتها تجربة رؤيا.