شهدت تركيا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حالة من عدم الاستقرار السياسي الناتج عن الانقلابات العسكرية، وتراجعا كبيرا في اقتصاد البلاد. وكانت تسيطر استراتيجية "سلامٌ في الوطن، سلامٌ في العالم" على السياسة الخارجية ذات التوجه الغربي الشبه كامل، حتى وصول حزب العدالة والتنمية للحكم الذي طبق استراتيجية "صفر مشكلات" التي قام بصياغتها وزير الخارجية، ورئيس مجلس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، وتعني تأسيس العلاقات الودية مع دول المنطقة، بما يخدم المصالح الوطنية، وتستند إلى عدة مبادئ أساسية:
أولاً، التوازن بين الأمن والحرية، بمعنى أن تكون حرية التعبير والديمقراطية محكومة بقوانين معينة، كي لا تضر بالأمن القومي للدولة.
ثانياً، حل جميع الخلافات مع دول الجوار القريب والإقليمي، كتصفير المشكلات الحدودية مع سوريا، وإطلاق مبادرة لحل الخلاف بين قبرص الرومية والشمالية التركية، والبدء في مفاوضات لتطبيع العلاقات مع أرمينيا، وتعزيز العلاقات مع المناطق الدولية النامية في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
ثالثاً، تطبيق سياسة خارجية متعددة الأبعاد، بمعنى عدم الاعتماد على طرف دولي واحد، والمقصود هنا المعسكر الغربي، أي الانفتاح على الشرق أيضاً بما يحقق التوازن ويضمن المصالح التركية.
رابعاً، نهج سياسة إقليمية نشطة من خلال تعزيز العلاقات مع الدول الإقليمية، وتفعيل الدور التركي المهم في المنطقة، من خلال أسلوب دبلوماسي جديد يقوم بالتخلي عن الخلافات المزمنة التي تهيمن على أجندة السياسة الخارجية مما يستنزف طاقتها في العلاقات الدولية. وحافظت تركيا على انتهاج استراتيجية صفر مشكلات وعدم التدخل في الدول الأخرى حتى عام 2015، ومثلت هذه الاستراتيجية "دبلوماسية القوة الناعمة".
انتقلت تركيا لتطبيق استراتيجيات دفاعية وهجومية بعد ظهور عدد من الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وفي النظام الدولي، مثل:
الاستراتيجية الدفاعية، طبقت تركيا استراتيجية الوطن الأزرق (وتعني باللغة التركية: مافي وطن Mavi Vatan) والتي تعدّ كجزء من الاستراتيجية الدفاعية، حيث تؤكد نفوذ تركيا في البحر المتوسط، وبحر إيجه، والبحر الأسود والتوسع فيه من خلال الدبلوماسية الحازمة والوسائل العسكرية وتمكين الوصول إلى الطاقة والموارد الاقتصادية الأخرى، وتمثل هذه الاستراتيجية "القوة الصلبة"، وتحت عقيدة الوطن الأزرق، طورت تركيا من أسلحتها البحرية بشكل كبير.
أما الاستراتيجية الهجومية، فطبقتها تركيا عبر التدخلات العسكرية المباشرة التي نفذها الجيش في إرسال قواته إلى ليبيا، وتنفيذ 4 عمليات عسكرية في سوريا وهي عملية درع الفرات، وعملية غصن الزيتون، وعملية نبع السلام، وعملية درع الربيع، إضافة إلى تجهيز الجيش لعدد كبير من النقاط والقواعد العسكرية في الشمال السوري، في حين لم تتوقف القوات التركية عن تنفيذ عمليات قصف داخل الأراضي العراقية ضد ميليشيا "PKK"، فضلا عن وجود عدد من القواعد العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية.
ويمكن القول إن تغير استراتيجية تركيا الخارجية من صفر مشكلات إلى التدخل المباشر يعود لعدد من الأسباب:
حماية أمنها القومي
تدخلت تركيا عسكرياً في سوريا بعد انتشار حالة عدم الاستقرار داخل الجانب السوري، وبعد توفر البيئة التي سمحت بتشكيل تنظيمات وميليشيات مثل تنظيم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" الذي تصنفه تركيا كتنطيم إرهابي تابع لحزب "PKK"، وبرؤية تركية قد تشكل قوات قسد تهديداً حقيقياً للأمن التركي، بحكم القرب الجغرافي.
تبني استراتيجية الوطن الأزرق
تبنت تركيا لاستراتيجية "الوطن الأزرق" حيث أعلن عنها الرئيس أردوغان عام 2019، والتي تهدف للحفاظ على الحقوق المائية التركية الجيوسياسية في البحر الأسود، والبحر المتوسط، وبحر إيجه، وتهدف أيضا للتطوير من الصناعة العسكرية البحرية، وأصبحت تنتج أنواعا متعددة من حيث الحجم والقدرة للأسلحة البحرية. كما دخلت تركيا في صراع على تقاسم المياه الاقتصادية الخالصة ضد اليونان وقبرص الرومية بسبب الخلاف على مساحة وأحقية كل دولة من المياه الإقليمية، ونشرت تركيا قواتها العسكرية البحرية في شرق البحر المتوسط، ووقعت معاهدة ترسيم الحدود المائية مع الجانب الليبي.
تعزيز الدور الإقليمي
تصنف تركيا كقوة إقليمية، لها تأثيرها السياسي النابع من تاريخها، وأهمية جغرافيتها الجيوسياسية بين آسيا وأوروبا. وتحاول تركيا عبر استراتيجيتها الجديدة أن تتولى دورا إقليميا عبر التدخلات العسكرية المباشرة، لحفظ مصالحها وتثبيث دورها في المنطقة.
تطور الصناعات العسكرية التركية
شهدت الصناعات العسكرية التركية تطوراً على كل المستويات، وأصبحت تمتلك منظومتها المحلية الصنع، لا سيما في مجال صناعة الطائرات من دون طيار وأبرزها طائرة Bayraktar TB2 التي تصنعها شركة Baykar، وهي مقاتلة تكتيكية قادرة على القيام بمهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والهجمات، وقد تم استخدامها في العمليات العسكرية التي خاضتها تركيا في سوريا وليبيا، كما أصبحت دولة رائدة في تصنيع الدبابات والمدرعات وكاسحات الألغام، مثل دبابات ALTAY MBT و KAPLAN المتوسطة والتي تعد من أكثر الصناعات الدفاعية التركية شهرة ومنافسة في الأسواق العالمية. وكفاءة الأسلحة التركية في العمليات الخارجية هي مؤشر لقوة تركيا عسكريا، وقوتها التنافسية في مجال الصناعات العسكرية دولياً.
الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط
سحبت الولايات المتحدة الأميركية عددا من قواتها الموجودة في الشرق الأوسط في الصومال، وأفغانستان وقلصت عدد قواتها ومعداتها في العراق والسعودية، لصالح إعادة نشرها في المحيطين الهندي والهادئ بغية مواجهة الصين. يخلق هذا الانسحاب حالة من الفراغ في المنطقة، ولا بد من بديل لتعبئته، مما دفع كلا من روسيا، وإيران، وتركيا للحصول على دور أكبر في المنطقة.
تحقيق المصالح الاقتصادية
تسعى تركيا من خلال تدخلها المباشر في عدد من الدول لتحقيق مكاسب اقتصادية، ضمن التعاون وفتح أسواق جديدة للصادرات التركية ضمن مناطق نفوذها وتعاونها الإقليمي. فعلى سبيل المثال وقعت تركيا مع الحكومة الليبية اتفاقيات اقتصادية في مجالات مختلفة، لا سيما في مجال الطاقة، والبناء.
محاولة الانقلاب الفاشل
فبعد فشل محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016، انعكست نتائجها بشكل مباشر على جميع ديناميكيات السياسة الخارجية والداخلية التركية.
بالنتيجة خلقت الظروف الدولية والتحولات الإقليمية إضافة إلى التغيرات الداخلية وحماية مصالحها وأمنها القومي المجال لتركيا لأن تأخذ دوراً أكبر في الساحة الإقليمية، مما فرض عليها الانتقال من استراتيجية تصفير المشكلات مع الدول المجاورة إلى التدخل المباشر الهجومي والدفاعي.