تشهد منطقة عفرين الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية شمال غربي حلب، نمواً سريعاً في قطاع الخدمات الترفيهية السياحية، وتبدو الاستثمارات في هذا القطاع المفترض نشوءه في المنطقة متنوعة وبمواصفات جمالية مقبولة (مقاهي ومطاعم ومتنزهات وملاهي)، وتوزعت الاستثمارات السياحية بين مركز المدينة والريف المتنوع من ناحية الإمكانات الطبيعية (أنهار وينابيع وبحيرات وغابات وكتل جبلية)، وأصبح لهذه المنشآت مرتادين من الأهالي من مختلف مناطق المعارضة في ريف حلب وإدلب.
عانى قطاع الخدمات السياحية والترفيهية في منطقة عفرين من الإهمال والاستثمار المحدود في ظل سيطرة النظام لعقود وسيطرة ميليشيا "وحدات حماية الشعب الكردية" لعدة سنوات، وذلك برغم المقومات الطبيعية والحضارية التي تمتلكها المنطقة، وبدأ القطاع ينشط منذ أن سيطرت المعارضة على المنطقة في العام 2018 إلا أنه ما يزال يواجه مجموعة كبيرة من التحديات التي تعيق تطوره ووصوله إلى حالة الاستثمار الأمثل للإمكانات والمقومات المتوافرة في المنطقة التي أصبحت ذات كثافة سكانية مرتفعة وممراً يتوسط مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا.
خدمات الترفيه في عفرين ما قبل الثورة
تحوي منطقة عفرين إلى جانب طبيعتها المتنوعة والخلابة عدداً كبيراً من المواقع الأثرية التي تؤهلها لتكون جزءا من الخريطة السياحية في سوريا، أهمها (قلعة سمعان وتل عين دارا وقلعة النبي هوري والقرى الأثرية في جبل ليلون ومواقع أخرى مثل براد وكيمار وصوغانة وكفر نابو وقلعة باسوطة وغيرها)، وكان من المفترض أن ينشأ قطاع خدمي متنوع وكبير مقارنة بالإمكانات الحضارية والطبيعية المتوفرة، وهو ما سينتج عنه بالضرورة اقتصاد محلي أكثر تنوعاً يساهم إلى حد كبير في التنمية المستدامة وتطوير المنطقة التي تضم نحو 360 بلدة وقرية ومزرعة، لكنها وبرغم الإمكانات الهائلة بقيت خارج الخريطة السياحية التي اعتنى بها النظام وروج لها طوال عقود، وبالتالي بقي سكانها المحليون يعتمدون على زراعة الزيتون والأشجار المثمرة والتصنيع المحدود (معاصر الزيتون وصناعة الصابون) كمصادر رئيسية للدخل.
المنشآت التي نشأت في عفرين خلال العقود التي حكم فيها نظام البعث في سوريا يمكن عدّها على أصابع اليد، وغالب الاستثمارات (المقاهي والمتنزّهات والمطاعم) كان يملكها مسؤولون وشخصيات مقربة من النظام وفروعه الأمنية، ويعتبر مطعم ومتنزّه رأس النبعة في قرية الباسوطة والذي أسس في العام 1977من أقدم المرافق السياحية في المنطقة، وما يزال يعمل حتى الآن، يتوسطه منخفض سهلي ساحر يتخلله عدد من الأودية النهرية المنحدرة من مرتفعات ليلون، وتحيط به بساتين المشمش والزيتون والرمان، وتبدو التلال والمرتفعات المحيطة بالمنخفض كحدود طبيعية، بعضها تكسوها الأشجار الحراجية وأخرى جرداء، وبعضها تأثر بموجة الاحتطاب (جمع الحطب-قطع الأشجار) التي شهدتها المنطقة خلال العامين الماضيين، أما مطعم ومتنزّه بحيرة البرج الواقع على ضفة بحيرة قرية برج عبدالو فقد تأسس في العام 2002، وتوزع عدد آخر من المطاعم والمقاهي على مناطق أخرى، أكثرها كثافة في منطقة كفر جنة، وانتشر في محيط مركز مدينة عفرين وعلى مداخلها الرئيسية في تلك الحقبة عدد من المتنزّهات والمطاعم والتي كانت تستخدم في غالبها لإقامة حفلات الزواج لأبناء المنطقة وخارجها.
واقع المنشآت السياحية في عفرين، والمرافق التي من المفترض أن تخدم القطاع المهم (الطرق والجسور والمياه وشبكات الصرف الصحي) كانت أقل بكثير مما تستحقه المنطقة التي أهملها وضيق عليها النظام بشكل مقصود، كان من المفترض أن تستوعب المنطقة عشرات المنشآت السياحية المتنوعة والمتنزّهات والمطاعم والفنادق على ضفاف البحيرات والشلالات الطبيعية والمواقع الأثرية والمرتفعات الجبلية.
تمكن النظام وخلال عقود من إحكام قبضته في عفرين، وحرم أهلها الاستثمار في قطاع السياحية، وكانت رخصة إنشاء مطعم ومتنزّه مكلفة جداً وفي بعض الأحيان تبدو مستحيلة، ويحتاج صاحب المشروع لواسطة، أو كفالة من إحدى الشخصيات المقربة من النظام والفروع الأمنية، كان النظام يدعم عدداً من عائلات عفرين ولهؤلاء فقط تمنح الرخص ويمكنهم توسيع ثروتهم (عائلة غباري) مثالاً، والتي كانت تحظى بمقعد شبه دائم في برلمان الأسد، بينما يحرم السواد الأعظم من الميزات ذاتها.
الخدمات الترفيهية في عفرين في ظل وحدات الحماية الكردية (ypg)
أحكمت ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي قبضتها على منطقة عفرين في الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2018، وذلك بعد أن سيطرت المعارضة السورية على مناطق واسعة تحيط بالمنطقة في الريف الحلبي وإدلب، وسمحت في الفترة ذاتها لعدد من المنشآت السياحية التقليدية بالعمل، لكنها لم تسمح بتطوير وتوسيع القطاع السياحي في المنطقة ولم توليه أي اهتمام في حين انصب جهدها ووجهت الجزء الأكبر من تمويلها نحو القطاعات العسكرية والأمنية في المنطقة وعمليات التحصين، وبناء معسكرات التدريب، والمقار والأبنية الخاصة بالحزب والشعب التابعة له.
وخلال السنوات الست من سيطرة "وحدات الحماية" على عفرين لم يكن من السهل على السوريين دخول المنطقة برغم وجود معابر تصلها بمناطق سيطرة المعارضة في ريف حلب وإدلب، ومع النظام من جهة نبل والزهراء جنوبي عفرين، دخول عفرين كان مسموحاً به لفئات معينة ومحرم على كل من له ارتباط بالمعارضة السورية، وهو ما أثر فعلياً على القطاع السياحي في المنطقة، ودفع عددا كبيرا من أصحاب المطاعم والمتنزّهات إلى إغلاق منشآتهم.
المعارضة تستثمر في الخدمات الترفيهية (السياحة)
أسهمت التركيبة الديموغرافية المستجدة في عفرين في تطور القطاع وتنوعه على نحو مقبول نسبياً وذلك برغم الصعوبات والواقع الأمني المتردي الذي تعيشه المنطقة، وتوزعت ملكية الاستثمارات الناشئة بين أبناء المنطقة، والمهجرين من حلب وحمص والغوطة الشرقية ودير الزور وغيرها من المناطق.
يبدو الحديث عن قطاع الخدمات السياحية في مناطق المعارضة مبالغاً فيه في ظل الضغوط والتحديات الأمنية والمعيشية التي يعاني منها سكان عفرين وعموم مناطق المعارضة شمال غربي سوريا، والتي يعيش فيها أكثر من 4 ملايين شخص، نصفهم على الأقل يعيشون في المخيمات، على أية حال، الحقائق السابقة لا تنفي حقيقة وجود مثل هذه القطاع الناشئ، والذي شكل فرصة ذهبية لرؤوس الأموال المعارضة للاستثمار فيه، بسبب توافر العوامل والإمكانات الطبيعة واليد العاملة الرخيصة، والطلب المتزايد على الخدمة.
تبدو منطقة النبي هوري على نهر الصابون أحد روافد نهر عفرين واحدة من أكثر المناطق جذباً للأهالي الراغبين بقضاء وقت ممتع خلال فصل الصيف، تبعد المنطقة مسافة 25 كيلو متراً إلى الشمال من مدينة عفرين، وتقع على مسافة قريبة من الحدود السورية-التركية، والطريق من اعزاز شمالي حلب إلى معالم النبي هوري السياحية مروراً بالقسطل ودير صوان لا يزيد على 20 كيلو متراً، ومن الناحية الفنية يبدو الطريق جيداً ما عدا أجزاء منه تحتاج إلى ترميم وتعبيد، بالإضافة لعمليات صيانة للجسرين التاريخيين على نهري عفرين والصابون.
زار موقع "تلفزيون سوريا" معالم النبي هوري الأثرية وضفاف نهر الصابون، اليوم هو الجمعة وأعداد الزوار تبدو كبيرة، ولكي تجد مكاناً للجلوس على ضفاف النهر عليك البحث لأكثر من ساعة بين الأشجار المنتشرة على الضفة اليسرى بشكل أكبر، الأجواء عائلية في العموم، الأطفال يملؤون مجرى النهر للسباحة والتمتع بالمياه الباردة، لا يزيد عمق المجرى على مترٍ أو مترين كحد أقصى، وعلى الضفاف المظللة بالأشجار تجتمع العائلة وتتقاسم فيما بينها العمل لتحضير وجبة الغداء وتحوي غالباً اللحوم المشوية بأنواعها، وأنواع أخرى من الطعام التي يفضلها المتنزّهون الذين ينحدرون من مناطق سوريّة مختلفة، فمناطق المعارضة يعيش فيها المهجرون من دير الزور والرقة وحمص ودمشق ودرعا وحماة وغيرها.
التجول بين معالم منطقة النبي هوري يحتم على الزوار سلوك طرق ترابية وعرة، فالمنطقة بحاجة ماسة للخدمات الأولية (شق الطرق وتعبيدها)، غير مسموح حتى الآن الاستثمار في المنطقة وبناء منشآت ترفيهية لدواعي أمنية وعسكرية، على سفوح المرتفعات المطلة على حوض النهر تتربع المباني الأثرية (قلعة النبي هوري)، حجارة من قياسات مختلفة غالبها من الحجم الكبير تعود إلى حقبة ما قبل الميلاد متناثرة على السفح، الأضرار بالموقع الأثري بالغة ولا يوجد حتى الآن أي مبادرة لترميم المكان وتهيئته ليكون قبلة للزوار. الجسران التاريخيان في منطقة النبي هوري ممران مهمان على واديي عفرين والصابون، وفي الوقت نفسه قبلة للمتنزهين، حيث يتوسع سرير النهر وتصبح مياهه أقل عمقاً.
بحيرة ميدانكي على مجرى عفرين لا تبعد عن معالم النبي هوري كثيراً، إلا أنها أقل ارتياداً من قبل المتنزهين برغم الضفاف الجميلة والممتدة على مسافة طويلة في محيط البحيرة، والسبب في ذلك يرجع إلى الوجود العسكري لفصائل المعارضة في المنطقة، فصيل "رجال الحرب" التابع للجيش الوطني أنشأ متنزّهاً على ضفاف البحيرة.
كثير من المطاعم والمتنزهات نشأت خلال العامين الماضيين في عفرين وريفها، على الطريق الواصل بين القسطل ودير صوان شمال شرقي عفرين يوجد مطعم يقدم مختلف الوجبات وقد دخل الخدمة مطلع العام 2020، وفي كفر جنة ومدخل عفرين الشرقي نشأت عدة مطاعم تقدم وجبات متنوعة لزوارها، بعضها يبدو أكثر جذباً لمقاتلي الفصائل لأن أسعارها رخيصة وتتناسب مع مداخيلهم الشهرية، ويتوزع عدد آخر من المطاعم والمقاهي والمتنزهات على أطراف عفرين الغربية والجنوبية، في الباسوطة كذلك، وفي مركز المدينة افتتحت عدة مطاعم ومقاهي أبوابها للزبائن. أهمها استراحة التراس الواقعة على أطراف عفرين ويملكها مهجرون معارضون من الغوطة الشرقية، ومطعم واستراحة شام يملكه المهجرون المعارضون من حمص، أما مطعم عباد الرحمن فتعود ملكيته لأشخاص من مدينة دارة عزة شمال غربي حلب، ومطاعم واستراحات أخرى بأسماء مختلفة، أهمها، كافي شو، وهاور، وليالي الشام، وثلاث منشآت سياحية أخرى يملكها أبناء المنطقة، هي، ليالينا، وفينيسيا، وشو كافيه.
المجالس المحلية الناشئة في منطقة عفرين تركز جهودها الخدمية على الخدمات الأساسية داخل التجمعات السكانية، المياه والصرف الصحي والطرق وغيرها، في حين لا تبدو مهتمة حتى الآن في تنمية قطاع الخدمات الترفيهية في المنطقة، كثير من المواقع الأثرية بحاجة لحماية وتأمين طريق جيدة لوصول الزوار إليها، كما أن العامل الأمني أحد أبرز العوامل المؤثرة على القطاع في عفرين، ما تزال خلايا "وحدات الحماية ypg" تشكل خطراً ولعناصرها انتشار كبير في المنطقة الجبلية الوعرة والغابات، ويبرز دور فصائل المعارضة كمعطل لقطاع الخدمات الترفيهية في بعض الأحيان من ناحية الانتشار العسكري غير المدروس في المناطق التي يمكن استثمارها، وسيطرة بعض الفصائل على منشآت (مطاعم ومقاهي) وتحويلها لمقار عسكرية أحد أهم العوامل المعرقلة للقطاع الناشئ، كما أن وقوع بعض المعالم الأثرية في منطقة التماس مع الوحدات والنظام جنوبي عفرين جعلها خارج الخريطة السياحية، وتعرض كثير منها للسرقة، مثل موقع فافرتين الذي تسيطر عليه الوحدات بمشاركة "ميليشيا نبل والزهراء"، المواقع والمعالم الأثرية في مناطق المعارضة تعرض جزء منها للسرقة، وأعمال الحفر ونبش المواقع ما تزال ظاهرة إلى الآن في ظل غياب الجهات الرقابية التي من المفترض أن تمنع ذلك.