في سياق التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع السوري على مدى السنوات الأخيرة، وبعد الثورة السورية، برزت ظواهر اجتماعية وسياسية أثرت في مسار الأحداث وطريقة تفاعل السوريين مع قضاياهم.
من أبرز هذه الظواهر:
- التشكي.
- التشكيك.
- الانتقاص.
هذه الثلاثية أفقدت الكثيرين الفاعلية وأسهمت في تكريس الوهم والوهن والشللية، رغم أن الظاهرة لم تكن جديدة كلياً، بل تراكمت عبر سنوات طويلة نتيجة للضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشها السوريون تحت حكم نظام قمعي أحادي، وأزمات اجتماعية طويلة الأمد. وجدت هذه الظواهر مساحة أوسع في ظل الثورة السورية وما تلاها من فوضى وانقسامات.
المجتمعات التي تتعرض لقمع مستمر وغياب حرية التعبير والمساءلة، يصبح التشكيك والانتقاص من الآخر جزءاً من آليات الدفاع التي يمارسها الأفراد. في سوريا، اتخذت هذه الظاهرة شكلاً خاصاً نتيجة الهيمنة الطويلة للنظام القمعي، الذي رسخ مفاهيم مثل "التآمر" و"الخيانة" لتبرير العنف والبطش ضد أي محاولة للإصلاح أو المعارضة.
التشكيك في هذه المرحلة لم يكن مجرد وسيلة تعبير، بل كان سلاحًا سياسيًا واجتماعيًا يُستخدم ضد الأفراد والجماعات التي تخرج عن الخط الرسمي أو تنتقد الأوضاع الراهنة. بات السوريون يشككون في نوايا بعضهم البعض، خاصة في ظل غياب المعلومة الدقيقة والشفافة. هذا التشكيك لم يكن محصورًا بالمعارضين، بل كان أيضًا سائدًا بين أفراد النظام نفسه، حيث كانت تُنسب الخيانة والتآمر لكل من لا يُظهر ولاءً مطلقًا للسلطة.
على السوريين إدراك أهمية الدليل والمعلومات الصحيحة في بناء الآراء والمواقف.
مع الوقت، أصبح الانتقاص من قيمة الشخص أو فكره أو عمله جزءًا لا يتجزأ من الحياة. في ظل انعدام الثقة بالآخر، كان الحل الأسهل هو التقليل من شأن كل ما يقدمه الآخرون. الانتقاص كان وسيلة للبقاء في الواجهة، حيث يتم تشويه صورة الخصوم أو تقليل قيمة منجزاتهم أو حتى إغفالهم تمامًا. هذه الديناميكية زادت من حدة الانقسامات الاجتماعية والسياسية في سوريا، وجعلت الحوار العقلاني مسألة شبه مستحيلة.
في ظل هذه الظروف، تراجعت معايير النقد البنّاء أو الحوارات القائمة على الدليل والمواجهة الفكرية. كان "الرأي الآخر" غير مقبول، والاختلاف يُعتبر تهديدًا لا يمكن السماح به، سواء في الحوارات الشخصية أو في الساحة السياسية.
مع مرور الوقت وازدياد الانفتاح التكنولوجي والإعلامي، أصبح من الواضح أن التشكيك والانتقاص لا يمكن أن يستمر طويلاً كأسلوب للتعامل مع الأزمات. لقد أدركت بعض النخب السورية أن هذا الأسلوب لا يخدم سوى تعزيز الفجوة بينهم، ويُسهم في خدمة السلطة ويدفع المجتمع في طريق مسدود، مما يحول دون الوصول إلى حلول حقيقية. بدأت تظهر بوادر المواجهة الفكرية والنقد البنّاء كبديل ضروري لاستمرارية الحوار والمشاركة المجتمعية.
على السوريين إدراك أهمية الدليل والمعلومات الصحيحة في بناء الآراء والمواقف. لم يعد التشكيك المجرد أو الانتقاص من قيمة الآخر يُعتبر حجةً مقبولةً. بدلاً من ذلك، أصبحت الحاجة ملحة لتقديم النقد المستند إلى الحقائق والمعلومات الموثوقة. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام البديل، أتيحت للناس فرصة الاطلاع على مصادر متنوعة للمعلومات بعيدًا عن الروايات الرسمية أو الكيدية التي طالما سيطرت على الفضاء العام.
على السوريين اعتماد الدليل كأداة أساسية للمساءلة والنقد. فمع غياب الحقائق الكاملة سابقًا، كانت الافتراضات والتهم الموجهة دون أدلة هي السائدة. أما الآن، فإن القضايا الكبيرة لم تعد تُناقش بناءً على "السمع" أو "الشك"، بل استنادًا إلى وثائق وأدلة ومعلومات يمكن التحقق منها.
لقد أصبح واضحًا أن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على أساس التشكيك أو الانتقاص، بل على مواجهة الحقائق والتحديات بشكل مباشر. الحوار المبني على النقد البنّاء والمساءلة الشفافة هو ما سيسهم في إعادة بناء المجتمع السوري بعد سنوات طويلة من القمع والانقسام.
هذا التحول نحو ثقافة الدليل ليس سهلاً، بل يتطلب وقتًا وجهودًا كبيرة من الأفراد والمجموعات التي بدأت تطالب بمزيد من الشفافية والمحاسبة. ورغم أن النظام السياسي القمعي في سوريا لم يتغير بشكل جذري، إلا أن هذه التحولات في العقلية والنهج النقدي بدأت تأخذ مكانها بشكل تدريجي.
النقد البنّاء هو السبيل الأمثل لتحقيق التغيير. فبدلاً من الاعتماد على التشكيك أو الانتقاص، بات من الضروري تقديم نقد موضوعي يستند إلى فهم دقيق للأسباب والعوامل التي أدت إلى الأزمات المختلفة في سوريا. النقد البنّاء ليس مجرد عملية توجيه الاتهامات أو تسليط الضوء على الأخطاء، بل هو محاولة لفهم العوامل التي تسببت في تلك الأخطاء والعمل على تصحيحها. وهو يختلف عن الانتقاص في أنه يسعى للإصلاح والتطوير، وليس للتدمير والتقليل من شأن الآخرين.
لقد أصبح واضحًا أن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على أساس التشكيك أو الانتقاص، بل على مواجهة الحقائق والتحديات بشكل مباشر. الحوار المبني على النقد البنّاء والمساءلة الشفافة هو ما سيسهم في إعادة بناء المجتمع السوري بعد سنوات طويلة من القمع والانقسام.
السوريون اليوم أمام تحديات كبرى، ليس فقط على مستوى السياسة أو الاقتصاد، بل أيضًا على مستوى إعادة بناء الثقة بين بعضهم البعض. هذا يتطلب تجاوز مرحلة التشكيك والانتقاص، وتبني الشائعات. عرف ألبرت وبوستمان الشائعة في كتابهما "سيكولوجية الشائعة" بأنها "اصطلاح يطلق على موضوع ما ذي أهمية وينتقل من شخص إلى آخر عن طريق الكلمة الشفهية، دون أن يتطلب ذلك البرهان والدليل".
ويعرفها جان مازونوف في كتابه "علم النفس الاجتماعي" بقوله: "الشائعة هي ضغط اجتماعي مجهول المصدر يكتنفه عمومًا الغموض والإبهام ويحظى عادة باهتمام قطاعات عريضة من المجتمع".
على السوريين تبني أساليب جديدة تعتمد على الحوار، والنقد البنّاء، والاحتكام إلى الدليل والمعلومات الموثوقة. إن بناء مستقبل مشترك يحتاج إلى جهود جماعية تتخطى الأحقاد القديمة والانقسامات والقيل والقال. يتطلب الأمر شجاعة لمواجهة الحقائق القاسية، واستعدادًا لقبول الرأي الآخر، حتى لو كان مخالفًا لما اعتاد الفرد أن يؤمن به. المواجهة الفكرية القائمة على الحقائق والدليل يمكن أن تكون طريقًا لإيجاد حلول حقيقية للأزمات التي يعاني منها المجتمع السوري.
إن سوريا اليوم بحاجة ماسة إلى مرحلة جديدة من الفكر النقدي، الذي لا يتوقف عند حدود التشكيك أو الانتقاص، بل يتجاوزها إلى مستوى أعمق من المواجهة بالحجة والدليل. من خلال هذه التحولات، يمكن للسوريين أن يبنوا مستقبلًا قائمًا على المصارحة، المصالحة، والعمل الجماعي من أجل تحقيق التغيير الإيجابي.