لم تغادرنا السنة الحالية (2021م) قبل أن تمنحنا نحن السوريين سخريتها المرّة، فما من شيء ينسجم مع حالنا، في هذه السنة، وفي سنوات كثيرة قبلها، أكثر من تلك المفارقات الفاجعة التي تغلف مرارة كل تفاصيل أيامنا، ولأنها كانت سنة كريمة بمرارتها فقد منحتنا دفعة واحدة، وفي أيام قليلة، ثلاثة تصريحات تمثل "النظام" و"المعارضة" و"المجتمع الدولي"، وتلخص إلى حد كبير فاجعتنا نحن السوريين.
فقد أطلق مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا السيد "غير بيدرسون" تكتيكه الجديد (خطوة بخطوة) وبناء عليه فإن كل خطوة من هذا الطرف يجب أن تقابلها خطوة من الطرف الآخر، فالإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين لدى النظام، يجب أن تقابلها مثلا خطوة القبول ببقاء بشار الأسد رئيسا لسوريا، وإذا سارت المفاوضات على هذا النحو فإنه من المرجح أن ملف المعتقلين وحده كفيل بأن يصدر مجلس الأمن الدولي قراراً تحت البند السابع ينص على تنفيذ شعار "الأسد أو نحرق البلد".
غير بعيد عن التكتيك الباهر للسيد "بيدرسون" فقد وصف رئيس وفد "المعارضة" وبطل سباقات أستانا الدكتور "أحمد طعمة" محادثات الجولة 17 في أستانا بـ”المعقولة”، وأنه علينا أن نتوقع وعودا في المستقبل القريب، رغم أن الطرف الروسي قال عكس ذلك، وفسر المراقبون هذا التناقض بالتصريحات بأن لدى السيد "طعمة" معطيات لا يعرفها أحد، بما في ذلك الدول الثلاث الضامنة!.
هل أتاكم حديث عبقري الدبلوماسية السورية، وبطل جلسات مجلس الأمن، سماحة السيد الدكتور "بشار الجعفري" نائب وزير الخارجية، إلى قناة "الميادين" قبل عدة أيام، والذي أعلن فيه أن سنة (2022م) ستكون بداية حقبة جديدة وليست بداية سنة جديدة وحسب، حقبة سيترسخ فيها انتصار سوريا المجلجل على أميركا وأوروبا وعشرات الدول الأخرى التي تحالفت ضدها، وكيف تستعد القيادة السورية الآن للانتقال إلى انتصار جديد، يليه انتصار جديد، وجديد..!!!
يقول الجعفري:
(انتصرنا بالتأكّيد، لم يبق إلا القليل للوصول إلى الانتصار الناجز، لكنّه كلّما اقتربنا من الانتصار الناجز، زادت هيستريا الأعداء، هيستريا مرتبطة بمدى التقدم في انتصارنا المؤكّد).
أما لماذا وقف كل هذا الحشد العالمي ضد سوريا، ولماذا حاربها وحاول هزيمتها، ثم فشل، وها هو "الجعفري" يعلن انتصارها عليه، فهذا سببه حسب "الجعفري": لأننا ببساطة في سوريا، وفي ظل القائدين الأسدين، فإن المواقف السورية كلّفت الغرب بشكل عام، والإدارات الأميركية المتعاقبة، الكثير، ولا أبالغ إن قلت إننا كنا وراء فشل الكثير من المشاريع الغربية في منطقتنا، بدءاً من المشروع الإسرائيلي، مروراً بحلف بغداد، وأزمة (1958م)، وحرب الخليج الأولى، والثانية، وكامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو.. وغيرها الكثير، إن هذه الحرب علينا هي تصفية حسابات قديمة مع سوريا.
كعادة كل حديث لمسؤول سوري يعمل في الجوقة الأسدية، فإنّ الختام لابدّ أن يكون في مديح الرئيس "العظيم"، فقد أطلق الجعفري اصطلاحاً جديداً في مديح "بشار الأسد" هو (ما فوق الصبر الإستراتيجي)
وبمناسبة الانتصارات التي تتوالى، ومنها الانتصار على المشروع الإسرائيلي، فقد أعاد "الجعفري" التذكير بالحكمة العميقة للسياسة السورية، عندما رد على سؤال المذيعة التي تجري المقابلة عن استباحة إسرائيل لسوريا وقيامها بـ"28" اعتداء على الأراضي السورية خلال هذا العام فقط (العدد الحقيقي أكبر من هذا بكثير) بالقول: "لن ينجح العدو الإسرائيلي باستفزازنا، فلدينا أولوياتنا، ونحن نردُّ دائماً، لكننا لا نعلن عما نفعله عبر الإعلام".
وكعادة كل حديث لمسؤول سوري يعمل في الجوقة الأسدية، فإنّ الختام لابدّ أن يكون في مديح الرئيس "العظيم"، فقد أطلق الجعفري اصطلاحاً جديداً في مديح "بشار الأسد" هو (ما فوق الصبر الإستراتيجي)، صبرٌ يتمتع به بشار الأسد وهو من صنع انتصار سوريا المدوي...!!
إنّها السريالية السورية، سريالية الكذب اللامتناهي، الذي يصيب كل من يعمل في الملف السوري، حتى لو كان غير سوري، ويكاد يبتلع كل شيء، فلا يعود بوسعنا أن نعرف أي عصر نعيش، وهل ننتمي نحن السوريين إلى العالم المعاصر، وهل من يحكمون سوريا جادون فعلاً في إعلان انتصار بلد أصبح محتلاً من عدة جيوش، ويصل التيار الكهربائي إلى بيوت مواطنيه لعدة دقائق في اليوم، ويقيس مواطنوه دخلهم بعدد أرغفة الخبز التي يمكنهم شراءها، ويتكدسون في طوابير طويلة للحصول على جوازات سفر لعلَّ مصادفة ما تمكنهم من مغادرة جحيمه؟؟!.
قبل الجعفري بزمن طويل، وفي ظهيرة يوم ربيعي مشمس، يومها كان "حافظ الأسد" هو من يهندس وينفد جريمة الخراب السوري، خرجت امرأة عجوز من بيتها لتجلس على مصطبة أمامه، كانت تتكئ على عصاها مستمتعة بدفء الشمس الذي غاب شهوراً عديدة، عندما توقف بجانبها حفيدها ومعه بضعة تلاميذ عائدين من مدرستهم، وهم يواصلون حديثهم، كانت تستمع إليهم وهم يتحدثون عن درسهم الأخير لذلك اليوم، وعن مدرّسهم الذي قال لهم إن الأرض كروية، وتشبه الكرة التي يلعبون بها، لم تصدق تلك العجوز ما سمعته فنادت حفيدها وسألته:
- ابني مين هالأستاذ اللي عم يقول إن الارض متل الطابة؟
- أستاذ الجغرافيا يا ستّي.
- شحّاري هدول اللي ع الطابة من تحت ليش ما بيوقعوا عنها؟
- يا ستّي في قانون اسمه قانون الجاذبية بيشدّهن وما بيخليهن يوقعوا.
تبتسم الجدّة العجوز ثم تقول:
- الله يخليلنا السيد الرئيس (تقصد حافظ الأسد)، ما خلا شي وما حطلوا قانون.
هناك فاجعة تتمدّد وتتمدّد لتبتلع ما تبقى من بلد، الغريب فيه أن انتصاراته في معركته ضد مؤامرة تضم نصف دول العالم، تستمر يوماً بعد يوم، لكّنه ومع كل انتصار يقترب أكثر فأكثر من عتمة القرون الوسطى
ولكي تستمر السوريالية السورية فإن ذلك الحفيد الذي أخبر جدّته عن قانون الجاذبية الذي يمنع سقوطنا عن الأرض الكروية، أنهى دراسته الجامعية في علوم الفيزياء، وأصبح مدرساً لها في الثانويات السورية، كتب على صفحته على "الفيس بوك"، بعد تناقل وكالات الأنباء لخبر إعصار "كاترينا" الذي ضرب الولايات المتحدة الأميركية 2015م، أن المخابرات الإيرانية والسورية وبتوجيهات من السيد الرئيس "بشار الأسد"، هي من استطاعت بتقنياتها السرية الخارقة صناعة ذلك الإعصار، ويومها أعلن هذا الفيزيائي – كما الدبلوماسي بشار الجعفري – عن اقتراب النصر النهائي.
من قانون الجاذبية الذي خلقه "حافظ الأسد" حسب تلك العجوز البسيطة، إلى عماء حفيدها الفيزيائي صانع إعصار "كاترينا"، وصولاً إلى دجل جهبذ الدبلوماسية السورية "بشار الجعفري"، هناك فاجعة تتمدّد وتتمدّد لتبتلع ما تبقى من بلد، الغريب فيه أن انتصاراته في معركته ضد مؤامرة تضم نصف دول العالم، تستمر يوماً بعد يوم، لكّنه ومع كل انتصار يقترب أكثر فأكثر من عتمة القرون الوسطى.
ربما يكون من حسن حظ السوريين الذي يعيشون في ظل حكمة صاحب "الصبر فوق الإستراتيجي"، أن لا يصل التيار الكهربائي إلى بيوتهم، كي لا يستمعوا إلى كل هذ الهراء.