يعيش السودانيون أقصى درجات الفقر المدقع، والحرمان على أغلب الصعد من صحة وتعليم ومعيشة وأمن قومي وأمن وطني من مياه وكهرباء وبيئة، سحق للطبقة الوسطى، ولو استثمرت خيراتها لأكتفت دول عربية أخرى منها، لكنها السلطة تأبى أن تخرج من حالة القلق وتمزيق البلاد.
مقابل ذلك تشتد وتيرة الفوضى وطبول الحرب في السودان، وفي عمقها هي تتمة لمآسي الشعوب العربية المبتلية بأنظمتها القمعية، التي تُدير ظهرها لكل المشكلات والأزمات والأخطار المحدقة بأمنها القومي وحدوها وكيانها، وتكوّر حمولتها الأمنية والعسكرية والسياسية تجاه شعوبها وقضاياهم، نسفاً وتقزيماً.
منظمة الصحة العالمية بدأت تدق ناقوس الخطر، مئات القتلى وآلاف الجرحى، "قوات التدخل السريع" والجيش يتصارعان ضمن المدن والأحياء المأهولة بالمدافع والصواريخ. وكعادة الكتل العسكرية المسلحة، النظامية أو الخارجة عن هيكلة الحكومة، في محاولة استمالة الدعم الدولي والإقليمي لصالحها، فإن سلاح التشهير والتهم جاهز ما بين الإرهاب أو مصلحة الوطن والمواطن، وتصوير الواقعة إنها ضد القوى المعادية للسودان وضد الميليشيا والفوضى.
مشكلات الطرفين السودانيين ليست جديدة، لكنها هذه المرة تتحدث بفوهة البنادق والراجمات، وإن كانت القوى المدنية أشعلت ثورة في سبيل الحرية والتحوّل الديمقراطي، لكن مؤشرات التنافس بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني أكبر..
لكن جوهر الصراع هو ضد مصلحة السودانيين، صراع على السلطة والنفوذ والموارد المالية، ورفض لتوحيد الطرفين العسكريين في هيكلية واحدة. والفاتورة هذه المرة لن يدفعها السودانيون وحدهم، فالسعودية أوّل المتضررين كونها أكبر مستثمر أجنبي في قطاع الزراعة وغيرها من الاستثمارات، وليس غريباً أن تكون هذه الحرب ردّاً دولياً على بدايات التطبيع بين السعودية وإيران، وبينها وبين النظام السوري. كذلك فإنّ مصر خاسرة أيضاً فهي تجد في السودان عمقها الاستراتيجي في صراعها مع أثيوبيا وقضية مياه سد النهضة.
مشكلات الطرفين السودانيين ليست جديدة، لكنها هذه المرة تتحدث بفوهة البنادق والراجمات، وإن كانت القوى المدنية أشعلت ثورة في سبيل الحرية والتحوّل الديمقراطي، لكن مؤشرات التنافس بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني أكبر، خاصة بعد فشل مجلس السيادة الذي تولّى السلطة لمرحلة انتقالية عقب الإطاحة بسلطة الرئيس السابق عمر البشير، في 2019، ثم إقالة حكومة رئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك، بالخروج بتوافق ولو بالحدود الدنيا. ليبدأ الطرفان في تشكيل تحالفات وعلاقات خاصة بهما بعيداً عن مصلحة السودانيين والسودان.
وتُعلن معها مرحلة الحرب التي تنجح في إجهاض الإصلاح الأمني والعسكري، والتي تعتبر عصب وجوهر الصراعات والخلافات المركزية بين مراكز القوى وصناعة القرار.
والواضح أن مساعي الصلح السابقة والتي توجت بالاتفاق الإطاري لم تأت بالنتائج المرجوة، خاصة وأن طرفي النزاع لا يروق لهما إبعادهم عن الحياة السياسية والتجارية، حيث وردت في المبادئ العامة الفقرة (14) "السلطة الانتقالية سلطة مدنية ديمقراطية كاملة دون مشاركة القوات النظامية"، والتي حصلت على مادة خاصة في البند الرابع الفقرة الثانية "يكون رأس الدولة قائداً أعلى للقوات المسلحة"، وأكدت الفقرة الخامسة على "حظر جميع الأنشطة التجارية والاستثمارية للقوات المسلحة، ما عدا المتعلقة بالمهمات العسكرية والتصنيع الحربي".
وهذه عينات من مواد تجرّد المؤسسة العسكرية من صلاحيات ومراكز قوى ونفاذ ضمن القرار السياسي والمداخيل الاقتصادية خارج سلطة الحكومة، وللاحتياط من ردة فعل تلك القوات، جاءت الفقرة الثالثة من المواد المتعلقة بالقوات المسلحة "يحق لمجلس الوزراء إشراك القوات المسلحة في مهمات ذات طبيعة غير عسكرية"، وهذه المواد كانت كافية لرفض الجيش للاتفاق الإطاري، ومحاولة قوات الدعم السريع الاستقواء بالقوى السياسية والمدنية ضد الجيش، وفي المحصلة فإنه لا غالب ولا مغلوب في هذه المعادلة، ما خلا قتل حيوات السودانيين وفنائهم.
من جهة أخرى، تحمل الذاكرة الجمعية لمتابعي تطور الأوضاع في السودان، إلى الوضع في سوريا والصومال والعراق ولبنان واليمن، وليس بالغريب أن تظهر تنظيمات داعش في السودان أيضاً، فقوات التدخل السريع كانت تضطلع بدور مركزي في منع تدفق المهاجرين غير الشرعيين من ليبيا والسودان وتشاد صوب أوروبا، مقابل مساعدات مالية، وهو في هذه الحرب ربما لن يتمكن من ضبط الحدود، والجيش مشغول بحروبه، والحال أن السودان تحول إلى نكبة لا فكاك من تداعياته على جغرافية مترامية الأطراف.
وإذا كان المؤشر العربي أشار بوضوح إلى أنّ السودانيين أكثر مَن لا يثقون في الجيش، بل إنها ثقة شهدت تناقصاً حاداً منذ عام 2011، فهذا يعني أن السودان منكوبٌ ومبتلى بطرفين يقودانه إلى حتفه، ولأزماتٍ سياسية واقتصادية، تترافق معه توترات عرقية وقبلية في صراع جديد لن تتوقف تداعياته عند حدود المواجهات العسكرية فحسب؛ فالواضح والمعلوم أن تدخلات الأطراف الإقليمية والدولية هي لدعم طرف ضد آخر، وربما نشهد "قانون اللاتوازن"، وعدّم تغليب أحد الطرفين على الأخر، أو التناوب في دعمها، وفي النهاية ربما يكون العنوان الأبرز هو تفكيك البلاد وانهيار السلطة المركزية التي تعاني أصلاً من مواجهات وصراعات قبلية في مناطق متفرقة من النيل الأزرق، وغرب السودان وشرقه.
في ذلك يقول السوريون لأشقائهم السودانيين: تعلّموا من مصائبنا، لا تثقوا بالدور الدولي ولا المنظمات الإقليمية، ابتعدوا عن فكرة رجحان الكفة العسكرية لطرف على حساب الطرف الأخر، إيّاكم والقول إنّ المجتمع الدولي سيحافظ على السودان وثرواته، لا تسمحوا للمبعوثين الدوليين تقرير مصيركم، لا تهاجروا وتتركوا بلادكم للعسكرة، وإن هاجرتم فبدؤوا برسم حياة جديدة عبر العلم والجامعات ومراكز الأبحاث والإعلام.
واعلموا أن أيَّ فصيل "ثوري" بأسماء وهويّات دينية، لن يأتي لكم بالسلام والأمان، وأن الإسلام السياسي الذي ترغب بعض الدول ذات المصالح في السودان من تمريقه وفرضه كجزء من السلطة لن يأتي لكم بالخير والاستقرار. الممولون والداعمون الدوليون والمنظمات المانحة والمساعدة لا تعمل "كرمى لأعينكم"، والأمم المتحدة لن تلجأ للقوى المدنية بل للسلطة الحاكمة، لا تسمحوا أن تأتي دولة إقليمية لتسيير أموركم، فهي لن تخرج قبل أن "تجف" خيراتكم وثرواتكم، وبعد أن ترحل ستجدونها في أغلب الصفقات والمشاريع الاستثمارية، وهي أساساً ستخرج بعد إتمام الصفقات على حساب السودانيين.
احذروا من الأحزاب السياسية الجديدة، هي لن تمنحكم بطاقة الفوز بالاستقرار؛ فالمجتمعات المريضة والمتبعة والمثخنة بجراحها، لا تحتاج إلى كيانات سياسية جديدة، قائمة أساساً على مبدأ المنفعة والاتكاء على قوى سياسية أخرى، لكن ربما تكون قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية التي لم تتلطخ يداها بدماء الأبرياء والمدنيين مخرجاً لكم.
يقول السوريون نصيحتنا لكم: قودوا بلادكم بأنفسكم، وإلا فإن صوملة، وعرقنة، وسورنة، ولبننة السودان وتجربة اليمن قادمة أيضاً لا محالة، وتقسيم بلادكم ستكون نكبة أخرى تضاف إلى أزمات العرب ومصائبهم. ولا تستغربوا من ظهور داعش لديكم
يقول السوريون نصيحتنا لكم: قودوا بلادكم بأنفسكم، وإلا فإن صوملة، وعرقنة، وسورنة، ولبننة السودان وتجربة اليمن قادمة أيضاً لا محالة، وتقسيم بلادكم ستكون نكبة أخرى تضاف إلى أزمات العرب ومصائبهم. ولا تستغربوا من ظهور داعش لديكم، سواء من المجتمع الأصلي المُغرر به، أو من المتسللين عبر الحدود في أثناء هذه الأزمة الراهنة، فتصبحون وقد انتقلتم من ثورتكم المفعمة بقوى التغيير المدني، إلى الحرب بين القوى العسكرية الأهلية، إلى كارثة إنشاء إمارة على يد الغرباء عن مجتمعكم؛ فتطور مراحل العمل الجهادي في سوريا والعراق وباقي دول تمدد داعش إليها، بدأت بأوضاع تتشابه كثيراً مع أوضاع بلادكم.
وفي المحصلة النهائية، الوقت ليس في صالح أحد، وعدم حسم الأمور وتسوية وحدة الجيش السوداني، كمقدمة وخارطة الطريق لنقل السلطة إلى القوى السياسية المدنية، فإن الحرب الحالية لن تكون آخر الصراعات العسكرية المسلحة التي تحيط بهذه البلاد الفاقدة للاستقرار السياسي والاقتصادي.