تستكشف المخرجة والفنانة البصرية اللبنانية رانية اسطفان في الفيلم الوثائقي التجريبي "In Fields of Words: Conversations with Samar Yazbek" (السهل الممتنع: عن الحوار مع سمر يزبك) دور اللغة الأدبية والصورة السينمائية في تتبع التراجيديا السورية عبر هذه الشهادة التوثيقية للروائية سمر يزبك التي تم تصويرها ما بين عامي 2013 – 2019، صادف ضمنها وبعدها تحوّلات فاصلة دخلت على تاريخ المأساة السورية، تظهر واضحة على ملامح يزبك في جلسات التصوير، وأكثر من ذلك في التوترات مع اسطفان نفسها في أثناء التصوير، لكنها قدمت في نهاية المطاف شهادة شاعرية وسياسية عن حاضرنا المضطرب.
ينشغل "السهل الممتنع" في الإجابة عن سؤال كيف يُعبر الكاتب والكاتبة بلغة غير لغته في المنفى، وللحصول على هذه الإجابة يقدم حواراً متعدد الطبقات بخصوص علاقة العنف مع اللغة لمدة 70 دقيقة. تظهر الأجوبة في المقدمة كصورة مكتوبة على الشاشة لنحو ثلاث دقائق، تربط الكلمات أو/و النص مع انطلاق اسطفان في الحوار من إجابة يزبك عن سؤال معنى اللغة كروائية، لا توفر يزبك في هذا المنحى جهداً في حديثها عن اللعب باللغة من ثالوث "المجاز، المعنى، الخيال"، تراها إعادة خلق لأشياء ملموسة بالكلمات مهمتها "تدوير وتلوين القبح"، من هذه المقدمة تنطلق اسطفان في البحث عن إجابة سؤال إن كانت للغة قدرة للتعبير عن كم العنف في التراجيديا السورية.
يوثق "السهل الممتنع"، الحائز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان Villa Medici السينمائي الدولي العام الماضي، فكرة علاقة اللغة بالعنف، وهنا لا تحضر إجابات يزبك فقط في الشريط ذاته، لأن اسطفان تنوّع في بحثها عن الإجابة باختيارها مقاطع من حوارات متلفزة أو إذاعية، وجلسات نقاشية كانت تحضرها يزبك للحديث عن أعمالها الصادرة باللغة الفرنسية. فالفيلم لا يقدم شهادة توثيقية مصوّرة ليروي تفاصيل العنف السوري بمأساويته، تنتصر الصورة المكتوبة والحوار على الصورة الواقعية لهذا المأساة، وهي تربط هنا الجمهور بصورة الكلمة لوصف ما حدث في سوريا من خلال اللغة، في مقابلة يعرضها الوثائقي، تقول يزبك: "كروائية لم أعد قادرة على كتابة الأدب أمام هذا العنف، لذلك كتبت التوثيق"، نحن هنا أمام عنف يحاصرنا من كل الجهات، يتجاوز اللغة والأدب.
تحكي يزبك، مثل معظم السوريين، لم تعد الحياة طبيعية بالنسبة لها بسبب "العقدة السورية"، تدور فصول هذا الحوار في عام 2017، في وقت كان العنف يتسارع بالصعود، ويتم إفراغ المدن من سكانها، كانت تلك المرحلة مفصلية في إعادة تعريفنا لمعنى العنف بجميع أشكاله. يحيلنا تسجيل شهادات للاجئات السوريات في المنفى إلى فكرة توثيق التاريخ الشفهي للسوريات الناجيات من أقبية مجاميع المسلحين في سوريا، تتحول معها إلى ذاكرة لمجتمعات مختلفة لدرجة جعلت من يزبك "مقبرة"، لم يعد للسوريين ذاكرة غير مع الأموات، هي طبقة أخرى تضاف إلى طبقات الشريط التي تربط بين الاستماع إلى اللغة، وإلى تعامل يزبك نفسها مع اللغةـ، كما لو أنها في حديث مباشر مع الجمهور.
وللغة البصرية دور في تصوير ما يحدث على أرض الواقع، تختار اسطفان كاميرا ثابتة على وجه يزبك في أثناء الحديث، تندر حركة يزبك أمام الكاميرا، حتى المقاطع التي تشير إلى التراجيديا السوري، تفضّل اسطفان اختيار مقاطع فيديو غير عنيفة، لكنها تؤسس لتصاعد العنف في سوريا، في واحد من المقاطع المُختارة، والتي توقفت عنده كثيراً، إدخال تداخل مقطع من اعتصام في حي الخالدية مع مقطع مصور للبحر، هي زرقة البحر نفسه الذي أدخل كمفردة موت على حياة السوريين اليومية، وهناك مقطع لفوهة دبابة تطلق القذائف في أثناء سيرها في أحد الأحياء المدمرة مع خلفية موسيقية لأغنية "للبعث يا طلائع"، تختار اسطفان لكل مقطع لون مختلف عن المقاطع الأخرى، لا وجود لمقاطع عنف، لكن هذه المقاطع المركّبة والملونة تجعل الجمهور أكثر قرباً من لغة يزبك، مثل ما تحوّل لون البحر إلى اللون الأحمر في مقطع آخر.
من الأفكار التي تناقشها صاحبة "بوابات أرض العدم" فكرة عدم عرض صور الضحايا السوريين على الشاشة لأنها جزء من "محو الذاكرة"، الفكرة التي تتحدث عنها يزبك تدور حول "العادة/الاعتياد"، أي "اعتياد المشاهد على رؤية صور السوريين العنيفة (...) تشييء الضحايا وتحويلهم إلى أشياء"، وكجزء من تحقيق العدالة علينا عدم اعتياد الموت، أو "اعتياد الوحشية". وأمام كل هذه المآسي والمجازر وصور الضحايا ينتهي الكلام، كما تقول يزبك: "هذه المآسي جدير فيها طلقة رصاص بالرأس". هجاء خاص لفكرة "العادة"، لأن الفكرة ليست بـ"اعتياد الوحشة"، الفكرة هنا في "اعتياد" كل شيء، وتقبّله على أنه جزء من الواقع و/أو الحاضر، الفكرة أيضاً هي "اعتيادنا" على فكرة عدم حصولنا على العدالة، تقابلها يزبك بإصرار "اعتيادنا على تحقيق العدالة"
تظهر الفترة الطويلة التي استغرقها تسجيل الحوارات تأثّر يزبك بما حصل في سوريا، يظهر أكثر وضوحاً في أنها أصبحت أكثر استيعاباً لما حصل في سوريا بعد سنوات من الأمل، في لحظات يظهر التعب واضحاً على وجه يزبك، ويتضح أكثر في حجم التوتر بين يزبك واسطفان. تكاشفها يزبك بكل صراحة رغبتها بالسفر وحدها، وفي لحظات تكون جلسات التصوير ثقيلة على ذاكرة يزبك، لكن هذا التوتر يعطي الجمهور شعوراً بأنه أكثر قرباً من الحوار، أجوبة يزبك عن الأسئلة، حتى الصورة المكتوبة "تتبختر الكاميرا، تتقدم نحو وجه الجميلة النائمة، وتعطي دروساً للناس في تنشيط المخيّلة، الكاميرا غير مستعجلة، واللوكيشن جاهز. تحتاج للمرور بطريقتها على كل هذه الأجساد الممزقة"، بهذه التدخلات تعمل اسطفان على أن يكون الجمهور جزءاً من هذا الحوار.
تستعيد يزبك في الدقائق الأخيرة جزءاً من ذاكرتها السورية عن طريق صور المظاهرات، والمدن المدمرة بالقصف، تستعيد جزءاً من ذاكرة طفولتها عندما كتبت قصتها، تستعيد تفاصيل في هذه الدقائق تنتقد فيها الكاتبات والكتّاب الذين فضلّوا الصمت، وعدم الحديث عن مشاهد الموت اليومي على الشاشات، أو توثيق ما جرى. ومع ذلك، في معظم أجزاء الفيلم تظهر لحظات شاعرية في حديث يزبك، ففي النهاية "رغم الخيبات، كان هناك احتمالات كثيرة، لكن المهم، كنّا في لحظة صادقين وصاحبي ضمير، وقلنا ما حصل، أيضاً هذا جزء من الجمال".
تقدم رانية اسطفان في "السهل الممتنع: عن الحوار مع سمر يزبك" أجوبة إشكالية، وغير منتهية حول علاقة العنف باللغة والأدب والسينما والفن في التراجيديا السورية، حوار يكشف عن خيبات الأمل والأحلام وانهيار الخوف. حوار بين روائية سورية تعيش تفاصيل العنف اليومي من منفاها، ومخرجة وفنانة بصرية لبنانية لديها ذاكرة عن الحرب الأهلية اللبنانية، وعلى تماس قريب من العنف السوري، تحاولان معاً استكشاف ما حصل فعلاً، وكيف تحوّلت الأحلام إلى "عقدة" لا يمكن حلّها أو فك لغزها.