يتمسك بطاولة الاجتماعات وكأن هزّة أرضية شقت الأرض تحت قدميه، مشيته عرجاء، يضع ثقله على ساقه اليسرى، يده اليمنى لا تتحرك، وظهوره دائماً متلفز. ثم، أليس وجهه منتفخاً أكثر من المعتاد؟
كل هذه التكهنات تدور حول صحة شخص واحد، فلاديمير بوتين، الذي يرى مراقبون أنه دمر مستقبل بلاد وأجيال من الشرق الأوسط إلى أوروبا، ومن سوريا إلى أوكرانيا، بالتزامن مع تقارير تتحدث عن توسع نفوذ بلاده في أفريقيا، حتى باتت شعوب شتى حول العالم، وربما بنزعة غير واعية، مهووسة بفكرة مرضه وزواله.
لكن ما الذي يعنيه تضارب الأخبار عن صحة بوتين أخيراً، والتي يظهر جزء منها على شكل تسريبات من دوائر الكرملين الضيقة؟ وهل من أدلة تعزز التكهنات حول إصابة بوتين بمرض عضال من وجهة نظر استخبارية أو طبية؟ وسواء كانت هذه الأخبار حقائق أم مجرد شائعات فما الرسائل السياسية المراد إيصالها من ورائها؟
تسريب جديد.. بوتين مصاب بالسرطان؟
"(بوتين) مريض جداً بسرطان الدم". بهذه الكلمات وصف رجل ثري مقرب من الكرملين صحة الرئيس الروسي، في تسريب حصلت عليه مجلة "نيو لاينز" (new lines) وفق ادعائها.
من المفترض أن التسجيل يعود إلى منتصف شهر "آذار" الماضي، وجرى تسريبه من قبل رجل أعمال غربي مناهض للحرب في أوكرانيا، لم تكشف "نيو لاينز" عن هويته بناءً على طلبه.
"المشكلة في عقله.. يمكن لرجل واحد مجنون أن يقلب العالم رأساً على عقب". يقول "ثري الكرملين" عن الرئيس الروسي، موضحاً في التسجيل المنسوب إليه أن بوتين دمر اقتصاد روسيا وأوكرانيا والعديد من الاقتصادات الأخرى بشكل تام.
"ثري الكرملين" الذي شملته العقوبات الأميركية والأوروبية، يتمنى مستخدماً "صيغة الجمع"، أن يموت بوتين من جراء تدهور حالته الصحية بسبب السرطان، أو أن يطيح به انقلاب ما في موسكو، من دون أي توضيح إذا ما كان يتحدث عن نفسه بصيغة الجماعة، أو أنه يشير بالفعل إلى وجود "آخرين" معه.
هل من أدلة تدعم ادعاء "ثري الكرملين" في التسجيل المسرب؟
في فترة زمنية متوافقة مع التاريخ الذي يعود إليه التسجيل المسرب، وبالتحديد في 13 من آذار الماضي، صدرت مذكرة من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، موجهة إلى قادة الأقاليم، تضم تعليمات تحثهم على عدم الثقة بالشائعات حول الحالة الصحية النهائية للرئيس. وفق تصريح لكريستو غروزيف، مدير مجموعة الصحافة الاستقصائية في موقع "Bellingcat"، المتخصص بإجراء التحقيقات الصحفية في مناطق الحروب وانتهاك حقوق الإنسان.
وشملت المذكرة توجيهات للقادة بتبديد أي شائعات حول صحة الرئيس قد تنتشر داخل الوحدات المحلية لأجهزة الأمن، بحسب غروزيف، الذي سبق أن قاد تحقيقات هزت العالم، حول تسميم الكرملين لمعارضين روس.
ويوضح غروزيف، أن هذه التعليمات غير المسبوقة أتت بنتائج عكسية، فمعظم ضباط المخابرات بات لديهم اعتقاد أن بوتين يعاني من حالة طبية خطيرة بالفعل.
على مدار الساعة.. أطباء حول بوتين
بعد نحو أسبوعين فقط من مذكرة جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، كشف تحقيق استقصائي لمنصة "proekt" الروسية، صدر بمناسبة الذكرى السبعين لميلاد بوتين، عن مرافقة أطباء متخصصين له بشكل روتيني خلال سفره داخل روسيا، من بينهم:
- أليكسي شيجلوف وإيجور يساكوف: طبيبان متخصصان في جراحة الرأس والرقبة.
- كونستانتين سيم: اختصاصي بجراحة العظام.
- يفغيني سيليفانوف: جراح أورام متخصص في سرطان الغدة الدرقية. (زاره 35 مرة خلال 4 سنوات)
تقارير عدة انتشرت في الصحافة الغربية تتحدث عن شتى أنواع الأمراض التي يعاني منها بوتين، من أبرزها ما نقلته صحيفة "ديلي ميل" عن احتمال إصابته بداء البارنكسون أو الخراف، وهو ما يتوافق مع اتهامات له بأنه مصاب بـ"جنون العظمة" أو "جنون الارتياب".
مشكلات في الظهر والعظام.. إصابات رياضية أم سرطان؟
"ثري الكرملين" يدّعي في التسجيل المسرب أخيراً، أن بوتين خضع لعملية جراحية في الظهر خلال تشرين الأول عام 2021، كان لها علاقة بسرطان الدم.
لكن من السهل دحض هذا الادعاء، فبوتين وخلال فترة ولايته الأولى سقط عن حصان خلال تدريب، وفي عام 2017 سقط أرضاً بعد اصطدام عنيف مع لاعب آخر في مبارة هوكي في سوتشي.
وفي كلتا الحادثتين خضع بوتين لإجراءات علاجية خطيرة في ظهره، وربما جراحية أيضاً، بحسب تحقيق "proekt".
لكن آشلي غروسمان، وهو اختصاصي في علم الغدد الصماء في جامعة أوكسفورد، أشار إلى امتلاء وجه بوتين ورقبته بشكل ملحوظ في العامين الأخيرين، وهي أعراض قد تكون مترافقة مع استخدام "الستيرويد"، وهو عقار مستخدم لعلاج أنواع مختلفة من سرطان الغدد الليمفاوية، أو الأورام الخبيثة في نقي العظم، أو سرطان خلايا البلازما، والتي بإمكانها أن تسبب أمراضاً عظمية واسعة الانتشار، تؤثر بالتأكيد على صحة الظهر والعمود الفقري، وفق تصريحه لـ"نيو لاينز".
وبحسب الاختصاصي فإن للـ"ستيرويد" آثاراً جانبية شائعة، من أشهرها:
- استنفاذ الخلايا المناعية في الجسم ما يرفع من خطر الإصابة بالأمراض المعدية، بما في ذلك فيروس كوفيد-19، وهو ما يفسر الاجتماعات الغريبة لبوتين على طاولات تساعده بتأمين مسافة فاصلة كبيرة بينه وبين الآخرين.
- أما العرض الثاني، فيتمثل بسلوك غير منطقي يتسم بالارتياب أو جنون العظمة.
يجدر الانتباه هنا إلى أن علاجات السرطان غالباً ما تسبب تساقط الشعر، وهذا عرض لم يلاحظ على بوتين، لكن في الوقت نفسه بعض أنواع السرطان قد لا يترتب على علاجها تساقط الشعر، والخلاصة أن أي توصيف لحالة بوتين الصحية يبقى محصوراً بخانة التكهنات، ومن هنا تأتي أهمية الرسائل السياسية للادعاءات المتداولة حول صحة بوتين،
تضليل أم صراع على السلطة؟
سواء كانت هذه المعلومات المتضاربة حقيقية في جزء منها، أم مجرد شائعات مضللة، وسواء كانت من صنيعة الكرملين أو أجهزة مخابرات غربية، فمن المرجح أن يكون لها أهداف سياسية تخدمها، وفق ما يرى خبراء، من أبرزها:
- الرغبة في التمهيد لإضعاف سلطة بوتين داخل روسيا وعلى أرض المعارك في أوكرانيا، من قبل أولئك الذين خاب أملهم في قيادته للبلاد.
- التقليل من فرصة طاعة القادة لأوامر بوتين في حال قرر استخدام الأسلحة النووية، بسبب معلومات تسري حوله، وإن كانت غير مؤكدة، عن إصابته بمرض عضال يؤثر علاجه على قدراته العقلية.
- قد تكون المعلومات المسربة مجرد محاولة لتشتيت الانتباه، لكن على الأرجح أن تكون مؤشرات لاقتتال داخل النخب الحاكمة في الكرملين، وسواء قام المتصارعون على السلطة في روسيا بتسريب معلومات صحيحة عن صحة الرئيس أو قاموا ببساطة باختلاقها، فإن الهدف من ورائها هو كسب المزيد من النفوذ في مواجهة بوتين. (جون سيفر: ضابط سابق متخصص بالشؤون الروسية في وكالة المخابرات المركزية "CIA")