icon
التغطية الحية

الزاهدون في القصور والزاهدات

2024.07.05 | 07:04 دمشق

876555
+A
حجم الخط
-A

حب السلطان والجاه والسيادة من غرائز البشر السياسية، وفي سبيلها تُخاض حروبٌ ويُباد عبادٌ وتُدمَّر بلادٌ. ووفقًا للجدلية الهيغيلية يسعى السيد دومًا إلى الهيمنة على العبد لكي يعترف بسلطانه عليه. أمّا أن تجد شخصًا يخالف هذه الغرائز ويزهد في المغريات فأمرٌ يدعو إلى العَجَب – أهو عاقلٌ أم مجنون؟ – والإعجاب. وقد حفظت لنا كتب التاريخ والأدب أخبارَ طائفةٍ من هؤلاء الزاهدين في القصور والزاهدات الذين آثروا الحريةَ والبساطةَ على تعقيدات الحياة السياسية، وحياةَ التقشف على حياة البذخ والجاه والسلطان، وذلك بمحضِ إرادتهم لا بدافعٍ من جحيم الظروف.

اترُكاه يُمَرِّغ ذيله في الطين!

وُلِدَ الحكيمُ الطاويُّ الصينيُّ شون تسي في القرن الرابع قبل الميلاد في حقبةٍ تُسمى في التاريخ الصيني الكلاسيكي بحقبة الدول المتحاربة. كان شون تسي يدعو إلى حياة البساطة والانسجام مع الطبيعة. وفي يوم من الأيام كان يصطاد السمك على ضفة أحد الأنهار، فجاءه رسولان من الملك ليبلغاه أن صاحب الجلالة عيَّنه في منصب رفيع. فما كان منه إلا أن قال لهما: "سمعتُ أن في المعبد سلحفاةً محنطةً منذ ثلاثة آلاف سنة، وهي ملفوفةٌ بالحرير، ومحفوظةٌ في صندوق ثمين على مذبح المعبد، وأن الملكَ يُقَدِّسها أيّما تقديس. لكن قولا لي، أيها السيدان: أكان خيرًا للسلحفاة أن تكون صَدَفةً مقدسةً تُعْبَد منذ ثلاثة آلاف عام ودخان البخور يتصاعد من حولها أم أن تبقى حيَّةً تُمَرِّغ ذيلها في الطين؟" فلما أقر المبعوثان بأن السلحفاة لا شك تفضل أن تبقى حيةً، قال لهما: "إذن، عُودا إلى سيدكما واتركاني أُمَرِّغ ذيلي في الطين!".

بائعُ عرش الإمبراطورية البريطانية بِغَرامِ مُطَلَّقة

لما مات جورج الخامس، ملك بريطانيا، سنة 1936، خَلَفَهُ على العرش ابنُه الأكبر إدوارد الثامن. كان إدوارد يناهز الثانية والأربعين حينها، وما لبث أن أبدى تبرُّمه من بروتوكولات البلاط الملكي الصارمة، وأثار الذعر بين السياسيين بسبب تجاهله السافر للأعراف الدستورية الراسخة. وبعد أشهر قليلة من اعتلائه العرش، تسبب في أزمة دستورية حين أعلن نيته الزواج من السيدة الأميركية والِس سِمپسِن متى حصلت على الطلاق رسميًا من زوجها الثاني. لكن قوانين الكنيسة الأنغليكانية، التي هو رئيسها الفخري، تحرِّم الزواجَ ثانيةً على كل من لها طليقٌ أو له طليقةٌ على قيد الحياة. والسيدة سِمپسِن لها طليقان على قيد الحياة. عارضت النُّخبُ السياسيةُ في المملكة المتحدة وعموم الإمبراطورية البريطانية هذا الزواج، بدعوى أن هذه المرأة المطلقة مرتين لا يصلُح أن تكون ملكة إنجلترا في المستقبل. وراجت شائعاتٌ في الصحافة حينها أنها امرأة مرذولة السمعة، وأن لها عشيقًا (غير الملك إدوارد)، وأنها طامعة بماله وجاهه لا في حبه. ولما أدرك الملك العاشق أنه لا يستطيع، دستوريًا، أن يجمع بين محبوبته والعرش، آثَرَ أن يُفارق عرشَ المُلْك (الذي بقي فيه 326 يومًا فقط) لا عرشَ الغرام (الذي بقي فيه إلى أن مات بعد 35 سنة).

خشونةُ عَيْشها في البدو أشهى!

وكما في الرجال عقلاءُ مجانين، كذلك في النساء عاقلاتٌ مجنوناتٌ. تزوج الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان ميسون بنت بَحْدَل بن أُنَيْف الكلبية، وأتى بها من بادية تَدْمُر وأسكنها قصرًا بديعًا في دمشق، تحيط به الأشجار والأطيار. لكنها كانت دائمةَ الحنين إلى ديارها في البادية على ما فيها من شظف العيش. وإليها تُنسب قصيدةٌ فيها من الحنين إلى الديار والزهد في حياة الترف ما يُذيب القلوب تعاطفًا. فإذا صحَّت نسبةُ هذه القصيدة إليها (لأن هذه الرواية قد تكون مدسوسةً لأسبابٍ مذهبيةٍ للطعن في معاوية نفسه)، لا إلى ميسون بنت جَنْدَل الفزَّارية، فإنها عاقلةٌ مجنونةٌ لم تُغْرِها حياةُ الترف والأُبَّهة والسلطان. وفي هذه القصيدة، أيًّا كانت قائلتها، مقارنةٌ طريفةٌ بين عيشة البدو القاسية السابقة وعيشة الحَضَر المترفة الحالية. ومبلغ الدلالة في هذه القصيدة البدائية التراكيب أنها، باستثناء البيت الأخير، تستهلُّ بشطرٍ يذكر ممتلكاتِ القائلةِ المتواضعةَ الشحيحةَ في الماضي ثم تختم بشطر عن ممتلكاتها الفاخرة الوفيرة الآن، لكنها بسبب الحنين والشوق تفضل بؤس الماضي على رَغَد الحاضر المادي:

لَبَيْتٌ تخفق الأرواح فيه ... أَحَبُّ إليّ من قصر مُنيفِ

ولِبْسُ عباءة وتقـرَّ عيني ... أَحَبُّ إليّ من لبس الشفوفِ

وأكلُ كُسَيْرةٍ فـي كِسْر بيتـي ... أَحَبُّ إليّ من أكـل الرغيـفِ

وأصواتُ الريـاح بكـل فـَجٍّ ... أَحَبُّ إليّ من نَقْـر الدُّفـوفِ

وكلبٌ ينبـح الطـرَّاق دونـي ... أَحَبُّ إليّ من قـِطٍّ أليـفِ

وبَكرٌ يتبع الأظعـانَ صعـبٌ ... أَحَبُّ إليّ من بَغْلٍ زَفُـوفِ

وخِرْقٌ من بني عمي نحيـفٌ ... أَحَبُّ إليّ من عِلْجٍ عَلُوفِ

خشونة عيشتي في البدو أشهى ... إلى نفسي من العيش الطريفِ

فما أبغي سوى وطنـي بديـلاً ... وما أبهاهُ مـن وطـن شريـفِ

هل إلى خروجٍ من سبيل؟

كان شارل ديغول (1890-1970) ضابطاً شابًّا في الحادية والثلاثين من عمره حين تزوج إيڤون ڤاندرو، وهي من أسرة من الصناعيين الأثرياء في مدينة كاليه الفرنسية، وكان والدها أحد أعيان المدينة. وحين احتلت ألمانيا النازية فرنسا سنة 1940، كان ديغول برتبة جنرال، فتمرد على حكومة فيشي بقيادة المارِشال بيتان الذي تعاون مع قوات الاحتلال النازي. وبعد أربع سنوات، هُزِمت ألمانيا، ودخل ديغول باريس دخولَ الفاتحين، وترأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية من سنة 1944 إلى 1946. ولما هدَّدت حربُ الاستقلال الجزائرية بانهيار الجمهورية الرابعة، أعاده الرئيس كوتي إلى السلطة، فترأس ديغول مجلسَ الوزراء في الأول من حزيران 1958. ثم بعد سبعة أشهر انتُخب رئيسًا للجمهورية، وأسس الجمهورية الخامسة.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت إيڤون ديغول تحقد على كلود غي، أحد مساعدي ديغول، لأنه يحاول إغراء زوجها بالعودة إلى السياسة. وقد أخبرته بأن عرَّافاً في بولندا قال لديغول إنه سيموت شَنْقاً. وكانت الطريقة الوحيدة لتكذيب هذه النبوءة تكمن في الابتعاد عن السياسة. كانت إيڤون ديغول امرأةً شديدةَ التواضع والحياء، وتميل إلى حياة التقشف، وتحرس خصوصيتها بشراسة. فلم تتحدث أمام الجمهور قطُّ، ولا يوجد تسجيل لصوتها على الإطلاق، مع أنها كانت سيدة فرنسا الأولى لسنوات عديدة. كانت حياتها الأسرية محور حياتها، وقد صرَّحت لخاصَّتها ذات يوم: "الرئاسة زائلة، والأسرة باقية".

لم تكن مسرورةً بالعيش في قصر الإليزيه الذي كانت تسميه السجن المُذَهَّب، وكانت تحن إلى دفء الحياة الأُسرية في بيتهم المتواضع في كولومبيه. وبُعَيْدَ انتقالهم إلى الإليزيه كتبت إلى صديقة: "يفتقر المنزل إلى البهجة! ولكن في نهاية المطاف ما هو إلا المكان الثالث والعشرون الذي عشنا فيه." لم تكن تراه إلا سكنًا عاديًا آخر من بين العديد من المساكن المستأجرة التي سكنوها في مناطق شتى في فرنسا. وكانت أحيانًا تنظر حولها وتقول للزوار بشيء من الاعتذار: "أنتم تعلمون أن لا شيء من هذا مُلْكنا." ولكي تُوِهم نفسها بمظهر الحياة الاعتيادية وتُخْرِجَها من أجواء الإليزيه، كانت أحياناً تغسل جوارب زوجها في المغسلة! وقد استماتت للهروب من قفص الإليزيه المُذَهَّب: ففي نيسان 1965، سعت عند أحد مساعدي ديغول لعله يقنع زوجها بعدم الترشح لولاية ثانية. لكن على من تتلو مَزاميرَك، يا داوود؟ رشح ديغول نفسه لولاية ثانية وفاز في جولة الإعادة على منافسه فرانسوا مِتيران. وفي أيار عام 1968، اندلعت احتجاجات الطلاب والعمال على سياساته، فاستقال في نيسان 1969 حين خسر الاستفتاء على إجراء المزيد من اللامركزية. ومات بعد سنة ونصف.

يقال إن الأمم السعيدة بلا تاريخ. وأتساءل: لو كان في تاريخ البشرية من عقلاء المجانين أكثر ممن ذكرناهم أعلاه، أما كانت صفحاتُه التي كُتِبت بالدماء والدموع أقلَّ بكثيرٍ مما قرأنا وشَهِدنا؟