إلى هذه اللحظة، لم يأتِ الرد الإيراني على ارتكاب إسرائيل جريمة قتل إسماعيل هنية في طهران، وربما ستصل هذه الكلمات للقارئ دون تغيير في المعطيات التي تتضمنها الكلمات السابقة.
ثمة شيء مختلف هذه المرة في قصة الردود. ففي المرة الأولى حين قتلت الولايات المتحدة قاسم سليماني، جرى تحفيز الجمهور، ونسج الاحتمالات حول طبيعة الانتقام. فبحسب التفسير الإيراني للمثل المعروف عن وجبة الانتقام، فإنها يجب أن تؤكل ساخنة، ولكن بغض النظر عما تتضمنه! حيث لم تؤدِ إلى أذى يُذكر للقوات الأميركية في المنطقة!
وكذلك جرى الحال إزاء الانتقام لقادة الحرس الثوري المقتولين في سفارة الجمهورية الإسلامية في دمشق، حيث تحولت المسيرات والصواريخ البالستية إلى ما يشبه نكتة مضحكة!
والآن، يبدو أن الملالي قد غيّروا وجهة نظرهم، أو تفسيرهم للمثل، إذ بات عليهم إقناع الجمهور بأن الوجبة يجب أن تؤكل باردة! لكن الفئة المستهدفة بجهود الإقناع لا تبدو متحمسة للقصة، كما أن الوسائل الإعلامية التي لعبت دورها في نقل نبضات تفكير الولي الفقيه حيال الصفعات وطريقة الرد عليها، لديها ما يشغلها. أو بالأحرى، ما تضعه عذراً أمام جمهور أدمن طرائقها في صناعة البروباغندا. فهي مشغولة بما يجري في غزة، حيث لم تتوقف ماكينات الإجرام الصهيوني عن قتل البشر، وسط تلكؤ القوى الدولية، ومراقبتها للمذبحة من بعيد، وكأن الأمر يحدث في كوكب بعيد!
هل يستطيع الخامنئي أن يخطب في يوم الجمعة بعد أن يظهر حرسه الثوري منهارًا تحت ضربات متلاحقة تشترك فيها عدة قوى دولية وإقليمية تريد أن تصفي حساباتها مع التهديد الإيراني النووي؟
يتذرع الإيرانيون بأنهم لا يريدون التشويش على المفاوضات التي تجري عبر الوسطاء كقطر ومصر بين حركة حماس وإسرائيل، لكن في عمق الأمر يبدو أنهم يريدون لجولات بلينكن، وزير الخارجية الأميركي بين الدول المعنية، ألا تنتهي، لأنها إذا ما وصلت إلى خط النهاية وأدت إلى توقف الحرب بعد خروج السجناء الفلسطينيين والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، ستنعكس سلبًا في جانب ما على سياسة طهران. ليس على صورة رأس محور المقاومة والممانعة الأكبر، الذي سيظهر بأنه يقول ولا يفعل! أو أنه يحارب بالآخرين من أجل مصالحه!
بل على طريقته في تحضير المشهد، الذي يؤمن له ديمومة الحضور في الإقليم بحجة تبنيه للحق الفلسطيني. فهو لا يريد أن يكون في الواجهة، طالما أن ثمن هذا الأمر يعني فيما يعنيه اختبارًا فعليًا لكل ما أنجزه عسكريًا خلال العقود السابقة! فلنتصور مشهدًا كهذا: تقوم إيران باستهداف الكيان وفق أقصى درجات القوة التي تخرج من خطابات سياسييها وقادتها العسكريين، وعلى الجهة المقابلة، يتحضر "مجرمو" تل أبيب لرد استباقي أو لرد لاحق، الأمر الذي يؤدي إلى حصول اشتباك مباشر، يتكشف عنه تحديد حقيقي وفعلي للأوزان والأحجام!
هل يستطيع الخامنئي أن يخطب في يوم الجمعة بعد أن يظهر حرسه الثوري منهارًا تحت ضربات متلاحقة تشترك فيها عدة قوى دولية وإقليمية تريد أن تصفي حساباتها مع التهديد الإيراني النووي؟
نتحدث عن الاختلاف في قصة الردود هذه المرة بناءً على استنفاد صورة القوة الإيرانية بعد ردين سابقين كشفا عن هزال تأثيرهما على الخصم، وكذلك عبر حساب منطقي للنتائج. طالما أن الكيان أعلن غير مرة أنه لن يسمح بتجاوز الخطوط المرسومة بينه وبين إيران، ولا ينسى أحد أن حربًا إضافية مثل هذه ستكون هدية رائعة لبنيامين نتنياهو، الذي يلعب على حبل دقيق من أجل مصيره، ويشد في وتر استمرار الحرب في غزة، والحرب الأخرى المحتملة في لبنان!
ألا يمكن قراءة سيكولوجيا الإجرام، من جهة الرغبة في تشكيل صورة المنتصر، والدولة المخفر، صاحبة الذراع الأقوى، بشكل مختلف عما جرى في عام 1967، عبر سلسلة هجمات متلاحقة بعيدة عن الحدود هذه المرة، في اليمن وفي إيران ذاتها، لتعيد تشكيل الشرق الأوسط؟ هل نسي أحد كلام نتنياهو في أول يوم بعد عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حين هدد الإقليم كله؟!
بينما يتبارى الجمهوريون والديمقراطيون في إظهار دعمهم للكيان، تتراجع إمكانيات سياسة أوباما المعروفة تجاه طهران.
ليس بإمكان الإيرانيين تغيير القواعد المتفق عليها ضمنيًا في اللعبة، فهم أسرى الأسلوب الذي لا يعرفون غيره. إنهم يتقنون التسرب إلى دول الطوق والمنطقة، وإحداث خلل في بناها الراسخة، لصالح تمدد النفوذ وفرض الهيمنة، ووضع النتائج على طاولة تقاسم المصالح!
والحرب بالنسبة لهم هي تلك التي يتم فيها تجنيد الآخرين، ودعمهم ليس من الخلف، بل من جهة بعيدة، دون الاكتراث بالأثمان التي تدفعها الشعوب!
كما أن ترقب ما سينتج عن الانتخابات الأميركية يجعل الانتظار صعبًا وأقسى. فبينما يتبارى الجمهوريون والديمقراطيون في إظهار دعمهم للكيان، تتراجع إمكانيات سياسة أوباما المعروفة تجاه طهران، في حال ارتكب هؤلاء حماقة ما في وقت دقيق كهذا. وتحت شعارات السلام وعدم التصعيد، والحؤول دون انجرار المنطقة إلى حرب واسعة، يخضع الملالي ويأملون فرجًا قريبًا -ربما لن يأتي- فالانتظار يبدو الخيار الأسلم، بالمقارنة مع تلقي صفعات أقسى!