تحاول هذه المادة أن تكون خطوة حقيقية ومؤلمة في اتجاه نقد الذات الذي بات السوريون والسوريات بأشد الحاجة له بعد إحدى عشرة سنة من مغامرة عقلهم الأولى، والتي فشلوا فيها فشلاً واضحاً في تحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، وعجزوا بشكل واضح عن بلورة مصالح مشتركة يجتمعون عليها أو مشروع جماعي مستمر مستدام يتنادون إليه. ولم يبرع السوريون والسوريات إلا في مهاجمة أي مبادرة فردية أو جماعية، وتحطيم أي محاولة والاستهزاء بكل جهد، ولطالما برعوا في تكوين عداوات أو جفاوات مع القوى التي لها أثرها في القضية السورية، بغض النظر عن غايات تلك القوى، وبالطبع كسبت تلك القوى وما زالت تكسب -وبسهولة -مناصرين لها ومنافحين عنها من الجماعة السورية التي يتأمل كل منهم بمصالح فئوية تضعهم على رأس القرار الذي ستنتهي له المعضلة السورية، والتي لا يبدو أنها ستنتهي. لأن المعضلة المركزية ليست في الوسط المحيط فحسب، بل بالسوريين أنفسهم ولها بعدها السياسي والاجتماعي والثقافي، والذي له تداعياته على المستوى النفسي للفرد.
الرجل السوري، ذلك الذي يعاني دائما من ظلم ما، لا يمكن له أن يغفره أو ألا يتوعد برده، لا يشمل فقط الرجال السوريين، فالمعنى هنا لا يُقصَد به الجنس البيولوجي، وإنما النمط الفكري والسلوكي الذكوري الدي يهيمن على المجتمعات السورية، ويتحلى به أكثرية السوريين من رجال ونساء، ولهذا الرجل السوري مواصفات واضحة وعامة يمكن أن يكون من بعضها:
مظلوم:
كل رجل سوري مظلوم، مقهور، مستهدف بشخصه، أو بجزء مرتبط بجوهره، أي بغض النظر عن سلوكه أو مصالحه أو غاياته. وبالطبع هناك ظلم واقع على السوريين عموماً، لكن عزيزنا الرجل السوري يراه على مجموعة من هؤلاء السوريين الذين يشاركونه مشتركاً ما مثل الديانة أو الطائفة أو العرقية أو القومية أو المنطقة أو الحي، وشعوره بالمظلومية هذه يبرر له الظلم أو التصفيق للظلم إذا وقع على غيره، لأن ذلك الظلم بحسب رأيه يقع في خانة دفاعه عن نفسه أو دفاع الآخرين عنه، أو أنه انتقام من إله سلط على من ظلمه رزايا تُسقي الظالم من الكأس نفسه، أو أنه انتقام له أو ولإخوته المظلومين من ظلم رزحوا تحته سنوات، فالرجل السوري بارع بإنشاء سرديات عن مظلوميات تعرض لها على يد جيرانه الذين يختلفون عنه ديناً أو طائفة أو قوميةً أو منطقةً أو قريةً أو حياً، وهو الأبرع في كتابة التاريخ كتابة ارتجاعية تجعل الحاضر هو صاحب الأثر الأقوى في الماضي، وتحول الماضي إلى قصة واحدة تبرر وتتماشى مع ما يرغب الرجل السوري في رؤيته في حاضره.
عدائي:
الشعور الثقيل بالمظلومية عند الرجل السوري يجعله عدائياً هجوميا أحادياً في طرحه، وكل قول لا يعجبه انسلاخ أو انحلال أو جهل أو انحطاط، وكل فعل لا يروقه خيانة أو دياثة أو عمالة.
يبدأ الرجل السوري في مهاجمة الآخرين من السوريين الذين لا يشتركون معه في المشترك العام الذي حدده لنفسه، شيء ما أكثر راحة للطرح وأقل جهداً للتفكير، والعداوة هنا مبنية على الجوهر، وليس على السلوك، وتتفاوت العداوة بحسب الحاجة، فلا أنا صادق في تحالفاتي، ولا صادق في خصومتي لأحد، لكنني صادق في منطلق تمايزي عن الآخر، حتى باللغة، فالثورة ليست سوى فورة، والرحمة غير جائزة على غيري، والعرب محتلون بدو، والكرد ليسوا سوريين وعملاء، والعلويون قتلة ولصوص، والمسيحيون عملاء غربيون ووسطاء انحلال.
الشعور بالعدائية تزيد مساحاته مع تضييق مساحة المظلومية، فهذا صحيح من جماعتي، ولكنه نازح، وأنا صاحب البيت، ومن ثم صاحب الأرض، وتضيق المساحة أكثر، فهذا من الحارة الشرقية الأشرار بطبيعتهم، وأنا من الحارة الغربية من الطيبين الذين خدعوهم ولم يدخلوا حارتهم في التنظيم، فاغتنى أهل الحارة الشرقية وبقينا فقراء، وهكذا يمضي السوري عمره في بحث مستميت عن المظلومية وصراع مستميت مع الظالمين.
مدّعٍ:
تذكر الكاتبة الأميركية ليزا وادين في كتابها "السيطرة الغامضة" عن سوريا أن السوريين واجهوا استبداد الأسد وسطوته بما يمكن للمادة أن تسميه بالتقية، أي أنهم لا يظهرون ما يبطنون، فالسوريون يخرجون في المسيرات المؤيدة لحافظ الأسد ليس لأنهم يحبونه، بل كما لو أنهم يحبونه، ويحضرون الاجتماعات الحزبية ليس لأنهم بعثيون، بل كما لو أنهم بعثيون، وهكذا. لعل الحضور الثقيل للدولة في المجالين العام والخاص في المجتمع السوري جعل تقريباً كل مفصل من مفاصل الحياة مدعوماً بالتقية، وزاد من ذلك ضعف الثقة المتزايد لدى السوريين ببعضهم نتيجة السياسات الأمنية لنظام مجرم حرب، فباتت تلك ال"كما لو أن" قاعدة مركزية في النمط السلوكي للفرد السوري، فهو يحضر الاجتماعات التي تدعو لمشروع سياسي ما، كما لو أنه يدعو لذلك المشروع السياسي، ويدعو لحل القضايا الاجتماعية، كما لو أنه مهتم بحل تلك القضايا، وينتقد سلوكاً ما، كما لو أنه ضد هذا السلوك، وبالتالي فلا يمكن أن تقيم مشروعاً جماعياً مع الرجل السوري، لأنك لا تعرف إن كان هنا لأنه هنا، أو كما لو أنه هنا.
غير جدي:
الازدواجية في شخصية الرجل السوري بين ما هو عليه، وما يريد أن يظهر كما لو أنه عليه تدعم عدم الأخذ بما يقوله بجدية، لأنه ليس من المعروف متى يكون جدياً. العامل الثاني الأكثر دعما لعدم جدية عزيزنا الرجل السوري يتبدى في الثقة المعدومة على مستوى الأفراد وضياع المصلحة والهدف المشترك العام، الذي يؤدي بطبيعة الحال لانتفاء وجود أو حاجة وجود الجماعة. ببساطة لا يوجد جماعة سورية لعدم وجود مصلحة أو هدف سوري.
بناء عليه لا يمكن للرجل السوري أن يكون جدياً في علاقاته السياسية أو الاجتماعية، لأنه لا يسعى إلى ما يسعى إليه الآخرون، فقد تعلم أن يعتمد فقط على نفسه، وألا يثق بغيره، وأن يمشي في الطرقات الملتوية والمخادعة، فلا جدية في طرحه، فهو لا ينتقل من الهدف العام المشترك ليجعل منه مصلحة شخصية، بل لعدم وجود ذلك الهدف يحاول أن يحضر في كل اجتماع، وفي كل كيان ليلائم الهدف العام لذلك الاجتماع أو ذاك الكيان مع مصلحته الشخصية، فإن نجح في ذلك استمر في ذلك الكيان ولو حتى وحده، ولذلك نرى كيانات مدنية وسياسية تتكون أحياناً من أفراد قلائل أو حتى من فرد واحد، وإن لم ينجح، غادر الكيان واتهمه بالانحراف عن الغاية الوطنية التي تعني في مضامينها غايته الشخصية.
قد يرى البعض أن هذا النقد فيه من التجني والمبالغة الكثير، ولكن هذا النقد توصيفي أكثر مما هو تحليلي، ويستند على مظاهر ومفرزات تلك الصفات لرجلنا السوري التي تجلت وتتجلى يومياً في تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع السوري.
السوريون والسوريات عموماً في المرحلة القادمة يحتاجون لحلول لتناقضاتهم الاجتماعية، حلول ليست سياسية أو ثقافية فحسب، بل حلول علاجية على مستوى المجال النفسي الاجتماعي.