ما وقع خلال الأشهر الأخيرة من أحداث في البلاد العربية، المتمثلة بعودة بشار الأسد إلى "الحضن" العربي، والاقتتال في السودان، واستمرار انقلاب قيس سعيد بخطابه الخشبي، كافٍ لجلب اليأس والقنوط للملايين من الشباب الذين خرجوا في أواخر عام 2010 وبدايات 2011، مطالبين بالتحرر من الهيمنة المديدة للأنظمة العربية، وتحديداً الأنظمة الجمهورية، "التي لم تتمكن هزيمة حزيران الساحقة من دحرها"، حيث يبدو المشهد في ظاهره وكأنه سحق لآخر الآمال في التحرر، لكن ما قدّمه الناس سيبقى في الأرض وسيثمر ذات يوم. والأمر الأكثر أهمية في انتفاضات الربيع العربي أنها خلقت ولا تزال الأمل والتفاؤل بالانتقال إلى شكل جديد من نظام الحكم يشارك فيه الناس، الذين غيبتهم الأنظمة قسراً عنه.
مع أن تونس كانت الحالة الأنجح في الربيع العربي، حيث عاشت نحو عشرة أعوام من حالة الحرية، على عثراتها، فإنها وقعت أخيراً تحت حكم دكتاتوري خشبي، أدخلها بحالة من الاستبداد يفوق استبداد زين العابدين بن علي الذي انتفضت الجماهير ضده. ففرض بداية قوانين الطوارئ، وأغلق البرلمان، وكتب "دستوراً" على مقاسه، وباشر باعتقال من يتجرأ على انتقاده، وآخرها اعتقال راشد الغنوشي، الإسلامي الديمقراطي. والسودان، الذي جدّد الآمال في موجة ديمقراطية شارك فيها الرجال والنساء عام 2019، واستمرت لمدة عام تقريباً، وأثمرت بالإطاحة بدكتاتورية عمر البشير التي حكمت البلاد لعقدين، وكانت سبباً من أسباب انفصال الجنوب السوداني، لكن منذ الشهر الماضي، يخوض اثنان من الجنرالات الذين استولوا على السلطة بعد الإطاحة بالبشير، وأجهضوا حركة 2021 المدنية للخلاص من حكم العسكر، حربًا ضد بعضهما بعضا، في معركة كسر عظم للسيطرة على البلاد، آخذين البلاد إلى حالة من عدم الاستقرار والدمار الذي قد يقسم البلاد من جديد.
رغم تلك الفظائع التي ارتكبها النظام الأسدي وحلفاؤه، روسيا بوتين وإيران الملالي، تتدافع أنظمة للترحيب بالقاتل بدلاً من سوقه إلى قاعات المحاكم
سوريا، الوجع الأقسى على الإطلاق، التي واجه النظام الأسدي ثورتها من أيامها الأولى بكل أشكال القتل، وحوّلها إلى الأكثر دموية، حيث دمّر ثلث البلاد، وهجّر نصف السكان، وقتل نحو مليون إنسان، واعتقل مئات الآلاف على مدى أعوامها السابقة. ورغم تلك الفظائع التي ارتكبها النظام الأسدي وحلفاؤه، روسيا بوتين وإيران الملالي، تتدافع أنظمة للترحيب بالقاتل بدلاً من سوقه إلى قاعات المحاكم، تحت حجج واهية وتصورات سياسية مغامرة. حيث قدّمت إليه العروض درءًا للمشكلات والجرائم التي سببها هو، وآخرها تجارة الكبتاغون التي أغرق الدول المجاورة بها، وقبلها، المشكلة الأكثر خطورة، وهي مشكلة اللاجئين والمهجرين السوريين. كل هذا، والأسد لم يُبد أي بادرة للتعاون، ولا أي استعداد لتقديم تنازلات، يحكمه شعورٌ بالنصر، أجبر العرب على "العودة" إليه.
كثيرة هي الأطراف التي تتحمل المسؤولية عن الفشل في سوريا والسودان وتونس، وأولها الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، حيث كانت خياراتهم السياسية محكومة بمصالح مؤقتة ورؤى سياسية قاصرة، ساهمت بشكل ما في عودة المنطقة إلى الاستبداد وجعلتها مرتعاً لكل الطغاة. ففي سوريا، ركزت الولايات المتحدة وأوروبا على قضيتين فقط، الأولى محاربة الإرهاب، والثانية قضية اللاجئين والمساعدات الإنسانية، وعدّت أن ما يجري فيها ليس ثورة نحو التحرر والكرامة، وإنما، على حد تعبير الرئيس أوباما، تعبير عن "صراع متجذر يعود تاريخه إلى آلاف السنين"، في إشارة إلى الصراع السني -الشيعي. واليوم نجد نفس الموقف الممالئ للدكتاتور قيس سعيد تونس، طالما نصّب نفسه حارساً لحدود أوروبا الجنوبية من تدفق المهاجرين. وفي السودان، ركزت الولايات المتحدة ودول أخرى جهودها على الوساطة بين الجنرالين المتحاربين، بمسعى استرضائي، واحتوائهما في نهاية المطاف، في تخلٍّ واضح عن دعم القوى الديمقراطية.
والعامل الأهم في الوصول إلى الحال الذي نعيشه، هو الفصائلية السياسية والعسكرية، التي ربطت مصيرها ومصير الثورات بالعامل الخارجي بعلاقة ارتهان وارتزاق واضحين، لدرجة أنها غدت بعلاقة تناقضية مع جمهور الثورة، وصارت مصالحها تستدعي الإبقاء على الوضع الراهن، الذي يحقق لها مكاسب مالية كبيرة، كما دخلت بعلاقات اقتتال ساهمت في خلق الفوضى، وعزز هذا الخلافات بين التيارات السياسية التي أبعدتها عن قضية الثورة الرئيسة: الخلاص من نظام الأسد والانتقال نحو نظام ديمقراطي، فهربت للأمام تطرح برامج "ما بعد الأسد"، وهو ما ساهم في خلق مزيد من الخلافات حول قضايا تكاد تشبه قضايا الغيب طالما نظام الأسد قائم.
الثورات تعرضت لانتكاسة كبرى نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، لكن الحكم على مصيرها رغم الحال الصعب الذي وصلنا إليه، يبدو قاسياً إلى حد كبير
بيّنت الثورات الشعبية التي اندلعت في نهاية عام 2010 وبداية 2011 في أكثر من بلد عربي أن الاستقرار تحت ظل الطغاة وهمي ومؤقت، وأن اضطهاد الشعوب وقمعها لن يحمي ذلك الاستقرار، وهو الادعاء الذي فضحته ثورات الربيع العربي، التي طرحت السؤال بعمق، سؤال الحرية ومشاركة الشعوب في صنع مصيرها، حيث تتمكن الشعوب عندها من تأسيس وبناء البلدان واستدامة استقرارها. والآن، في ظل هذه الظروف القاهرة والموجعة التي تعانيها البلاد، من بؤس في الوضع المعاشي يصل حدّ الجوع، وهيمنة المخابرات والميليشيات الأجنبية على مقدرات البلاد واستهتارها بأحوال الناس، إضافة لمشكلة المهجرين بالداخل والخارج، هل يمكن القول بأن تطلعات الملايين نحو الحرية والحياة الكريمة تلاشت؟
من المؤكد، أن الثورات تعرضت لانتكاسة كبرى نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، لكن الحكم على مصيرها رغم الحال الصعب الذي وصلنا إليه، يبدو قاسياً إلى حد كبير، فالثورة الفرنسية أخذت من الزمن عقوداً حتى استقرت بشكلها الذي نادى به الفرنسيون في أيامها الأولى (حرية -عدالة -مساواة)، وعانت من الفوضى وعودة الحكم الملكي، لكن إرادة الشعب انتصرت أخيراً. وبالنسبة للربيع العربي، فقد حقّق جزءًا من مهامه، وهو كسر هيبة هذه الأنظمة الديكتاتورية، إن لم نقل أسقطها، فاستمرارها غدا مرهونا بالداعمين الخارجيين، أما مطالب ثورات الربيع العربي فلم تكن أمراً طارئاً، فهي متجذرة في نفوس وعقول ملايين البشر ولا تزال، وكلهم يتوقون إلى الكرامة والحرية والعدالة، وبناء دولة القانون التي لا تميز بين مواطنيها، وذلك لأن أسباب اندلاع الثورات لا تزال، بل تعمقت أكثر. وبالتأكيد، لن تذهب نضالاتهم سدى، وستنهي أنظمة الطغيان، المعادية للبشر والتاريخ.