يقول أندرونج - البروفسور في جامعة ستاندفورد وأحد أشهر العاملين في مجال الذكاء الصناعي-: "التعلّم العميق1 (الذكاء الصناعي2) قوة عظمى، باستخدامه يمكنك جعل الحاسوب يرى أو يخلق فناً جديداً أو يترجم اللغات أو يقدم تشخيصاً طبياً أو يَبني قطعاً من سيارة يمكنها قيادة ذاتها وإذا لم تكن هذه قوة عظمى فأنا لا أعرف ما هي".
يطلق كثيرون عصر الذكاء الصناعي للتعبير عن السمة الأهم لـ عصرنا الحالي، ويعود هذا إلى عديد الإنجازات المذهلة التي يحققها الذكاء الصناعي بسرعة وكفاءة تضاهي مقدرة الإنسان.
وتتنوع المجالات التي برز فيها الذكاء الصناعي حتى تكاد تشمل جميع الأنشطة كالتعرف على الكتابة اليدوية والترجمة وتحليل البيانات المعقدة والضخمة، اكتشاف وتحديد الأجسام في صور الأقمار الصناعية بل حتى إنه يدير تطبيق تيك توك الشهير، ولكنه مؤخراً تمكن من تحقيق إنجاز مثير للدهشة وأصبح يمتلك المقدرة على اكتشاف الأدوية!
في تقرير صادر عن شبكة ميدان بعنوان "المخترعون الجدد.. هل ابتكر الذكاء الاصطناعي أقوى المضادات الحيوية"، التقى مراسلو ميدان أساتذة مِن معهد ماساتشوستس للتقنية وتحدثوا إليهم حول توصلهم بمساعدة الذكاء الصناعي لتطوير مضاد حيوي فعّال حقق نتائج جيدة أطلقوا عليه اسم "الهاليسين".
قبل الحديث عن الهاليسين لنلقي نظرة عن كيفية تطوير دواء جديد:
يستغرق تطوير دواء جديد من 3 إلى 6 سنوات، تبدأ بالبحث العملي لاختيار المادة الفّعالة ثم اختيار مركب يبتدأ به في التجارب الأولية تليها التجارب الكيميائية تليها التجربة على الحيوانات وتنتهي بالتجربة السريرية على البشر، غير أنّ برنامج الذكاء الصناعي الذي تمّ تطويره في معهد ماساتشوستس تمكّن من فحص آلاف المركبات الكيميائية في عدة أيام.
وأكدت إحدى أساتذة الهندسة الكهربية وعلوم الحاسب من معهد ماساتشوستس أنّ دخول الذكاء الصناعي في صناعة الأدوية يساعد على اختزال الزمن البحثي الذي قد يمتد لشهور أو سنوات ويتطلب كلفة مرتفة محولا هذه الأبحاث إلى تجارب تنتهي بأيام معدودة وبكلفة منخفضة.
أثبت العلماء فاعلية الهاليسين بتجربته البكتيريا الإشريكية القولونية التي لم تبدِ أي مقاومة للمضاد الحيوي الجديد خلال ثلاثين يوماً من التجربة بينما أظهرت مقاومة لأنواع أخرى من المضادات الحيوية بعد يومين أو ثلاثة. وحسب تعبير الباحث الرئيس في الدراسة عن المعهد فإن التجارب أكدت أن للهاليسين قوة ستحتاج البكتيريا زمناً طويلاً لتطوير مقاومة خاصة ضده.
دعنا نعود للبدايات: يَرجع أول ظهور للذكاء الصناعي إلى أربعينيات القرن الماضي عندما نشر كل من (والتر بيتس ووالرين ماكولوتش) النموذج الرياضي الأول للشبكات العصبية الصناعية3، وشهدت بعدها هذه الصناعة فترات مختلفة بين صعود وهبوط. ولكن خلال السنوات العشر الماضية حقق التعلم العميق الذي يعتمد على الشبكات العصبية الصناعية نتائج ملفتة في مختلف المجالات التي نشط فيها، وهنا ينبغي الذكر أنّ كلمة "العميق" في مصطلح التعلم العميق لا تشير بالضرورة إلى ذكاء أو فهم أعمق وأفضل وإنما تشير إلى عدد المستويات المتتالية4 (الطبقات الموجودة بين طبقة المدخلات وطبقة المخرجات) التي يتشكل منها نموذج الذكاء الصناعي باستثناء طبقة المدخلات5 والمخرجات6 كما هو موضح في النموذج.
يختلف الذكاء الصناعي عن البرمجة التقليدية7 اختلافاً جوهرياً بناءً على البيانات المدخلة ومخرجاتها. فبحالة الذكاء الصناعي تكون المدخلات مكونة من البيانات ونتائجها ويقوم الحاسوب هنا باستخراج القواعد التي أدت إلى النتائج وتعلمها ليقوم بتطبيقها لاحقاّ على محموعة جديدة من البيانات. وأما في حالة البرمجة التقليدية تكون المدخلات مكونة من البيانات ومجموعة من القواعد ينبغي على الحاسوب اتّباعها للوصول إلى النتائج المطلوبة.
ولفهم كيف يعمل الذكاء الصناعي دعنا نأخذ مثالاً بسيطاً من تقنية التعرف على الأرقام المكتوبة بخط اليد التي طورتها شركة غوغل.. فأيّاً كانت الطريقة التي تكتب بها الرقم 9 على سبيل المثال يتمكن الحاسوب من التعرف عليه بالطريقة التالية: يُقسَّم الرقم 9 إلى أجزاء أصغر يسهل التعرف عليها وتحديدها (دائرة وتحتها خط مائل) ثم يقوم بتقسيم الدائرة إلى مجموعة من الخطوط المائلة بزوايا معينه والخط المائل تحتها يقسم إلى عدة أجزاء أيضاً، وبحساب احتمالات هذه الأجزاء الصغيرة وخلال عدة مستويات متتالية من الحسابات تنحاز الشبكة العصبية الصناعية للاحتمال الأكبر.
ساهمت شركات وادي السيليكون وعلى رأسها غوغل في تطوير تقنية الذكاء الصناعي بشكل كبير فنظمت مسابقات عديدة بجوائز كبيرة لتطوير الخوارزميات وأطلقت منصات مجانية لتمكين المبرمجين من تجريب أكوادهم8 باستخدام سيرفرات خاصة بغوغل.
تهدف اليوم العديد من منصات التعليم المجانية وشبه المجانية إلى تمكين عموم الناس من تعلم البرمجة والذكاء الصناعي وعدم حصره بالمهندسين والمختصين وخلال الأعوام القليلة الماضية أُنشِئت في العديد من دول العالم ومنها تركيا أقسام جديدة تتبع لكليات الهندسة تحت مسمى قسم الذكاء الصناعي.
ما يزال كثيرون ينظرون إلى التطور السريع للتكنولوجيا وإلى الذكاء الصناعي على وجه الخصوص بعين الريبة والخوف من المستقبل الذي ستسيطر عليه الروبوتات، متناسين تماماً أن هذه المخاوف قد عاشها العالم سابقاً عقب الثورة الصناعية، وأن الاعتقاد الذي ساد في تلك الحقبة أن الآلة ستحتل مكان الإنسان وسيفقد كثيرون وظائفهم، لكن الذي حدث هو على النقيض من هذا، فالآلة أوجدت العديد من فرص العمل الجديدة مرتبطة بها وساهمت برفع مستوى معيشة البشر، وكذلك الذكاء الصناعي.
لنوضح الفكرة أكثر، أدى اختراع ماكينة الصراف الآلي من جهة إلى خسارة بعض موظفي البنوك وظائفهم، ولكن من الجهة الأخرى فإنها أوجدت فرص عمل للعديد من المهندسين والفنيين، وساعدت على تسهيل الأعمال المصرفية بشكل كبير. اليوم تمتلك جميع البنوك تطبيقات للهواتف الذكية بإمكان العملاء إجراء جميع معاملاتهم المصرفية من خلالها، ومع أنها تؤدي إلى خفص عدد الوظائف البنكية ولكنها ترفع العدد في وظائف المبرمجين والمهندسين لضمان سلامة هذه التطبيقات وعدم تعرضها للاختراق.
هوامش:
نظرا لقلة استعمال الكلمات العربية في المجال التقني، هذه بعض المصطلحات العربية ومقابلها في اللغة الإنجليزية.
- Deep Learning: التعلم العميق
- Artificial Intelligence: الذكاء الصناعي
- Neural Network: الشبكة العصبية الصناعية
- Hidden Layers: مستويات متتالية
- Input Layer: طبقة المدخلات
- Output Layer: طبقة المخرجات
- Classical Programming: البرمجة التقليدية
- Code: كود (الرموز والأحرف التي يستخدمها المطورون لتصميم برامجهم).