في أدبيات التخطيط العمراني المعاصر، ثمة مساحة واسعة للاهتمام بمفهوم "الهوية العمرانية" للمدن، خصوصاً تلك التي تحتضن بحاراتها وشوارعها تركة تراثية وثقافية وتاريخية، فتكون عمارتها فهرساً يشكّل ذاكرة مكانية لما عاشته من أحداث وتطورات.
فعمران المدينة هو واقع تراكمي في المكان والزمان، يعكس هوية مجتمعها وثقافته، وهو أمر هضمته السلطات المستبدة جيداً، فسعت، بشكل حثيث، للتشكيك في تاريخ وحضارة الشعوب التي تحكمها، وزرع روايات جديدة تتماشى مع رغباتها، بعدما تعلق في الذاكرة الجمعية تأتي الخطوة الثانية وهي زعزعة إدراك الحاضر، عبر تدمير وإخفاء الآثار والمباني التاريخية، التي ترمز لعصور سبقتها، لتبني مكانها صروحاً ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة الحالية. والنتيجة المرجوة هنا شعب جديد، يحمل ذكريات منتقاة بعناية، ويتأثر بواقع حديث، يتفاعل معه بصرياً، ليخلق إدراكاً جمعياً للحاضر، بعيداً عن كل ما يذكّره بماضيه.
سعى نظام الأسد، وطيلة عقود، إلى الهيمنة على كل جوانب الحياة، وإنتاج مجتمع ذي صبغة واحدة. ولعلّ أهم هذه الجوانب هي العمارة والسيطرة على مفهوم المدينة
وفي الحقيقة تكمن أهمية المباني القديمة والآثارية، في كونها المحرك اليومي لتفاعل الجماهير، وبالتالي فهي جزء رئيسي ضمن التكوين البصري والثقافي والاجتماعي والسياسي أيضاً، سواء كان هذا بوعي من الجماهير أو بدونه. وما يثير تساؤل كثير من الباحثين والمختصين هو مدى علاقة السلطات المستبدة الحاكمة بهذه الأعمال، أو ما الذي تريده هذه السلطات فعلياً منها؟. هذا التساؤل يأخذنا بديهياً باتجاه سوريا، حيث سعى نظام الأسد، وطيلة عقود، إلى الهيمنة على كل جوانب الحياة، وإنتاج مجتمع ذي صبغة واحدة. ولعلّ أهم هذه الجوانب هي العمارة والسيطرة على مفهوم المدينة، ما سنسميه اصطلاحاً "عمارة الاستبداد"، لضمان مجتمع "متجانس" وفق مفهوم الدولة الاستبدادية، التي تقف في وجه تشكيل مجتمعات حقيقية صلبة في مواجهة الحكم الشمولي، وفكرة "القائد إلى الأبد".
بالتساوق مع ما سبق، ووفق هذا المخطط الدقيق لا يكون قد فتّت المدن مجتمعياً فقط، بل أيضاً خلق داخل الواحدة منها مدناً مصغرة منغلقة على نفسها، تزيد من تشويه صورة المدينة نفسها، معمارياً وعمرانياً، في عدم تناغمها مع الهوية القائمة الممتدة منذ مئات السنين، كما ترسخ التفريق داخل المجتمعات المتعددة في المدينة الواحدة، باختلاف مذاهبها وأعراقها وانتماءاتها، وتساهم في زرع الخوف كقيمة أساسية في حياة المواطن السوري الذي يتوجس من الآخر، لأنه ببساطة "الغريب العدو" وفق المفهوم الذي أسسته الديكتاتورية العسكرية.
زاد الطين بلة، أنه كان لمؤرخي حزب البعث الحاكم اليد العليا في إعادة كتابة التاريخ، بينما تواطأ رؤساء أقسام الآثار مع هذه السياسة، في وقتٍ كان التنقيب في المواقع غالباً ما يترك لعلماء الآثار الأجانب. فالنظام لم يوفر حتى تراثه الأثري "كمفاتيح دبلوماسية". باختصار لقد حلّ نظام الأسد مشكلاته المستعصية مع العالم باستخدام "التاريخ" كنقطة مساومة.
(كان يستوجب إزاحة شجرة من مكانها في مدينة سويسرية إجراء استفتاء لأهل المدينة، وبعد موافقتهم على المخطط المعلن تعمل الرافعات والخبراء على نقلها بضعة أمتار!.).
تفاجئ محافظة دمشق السوريين بإزالة إحدى أهم ساحات العاصمة، "ساحة السبع بحرات"، بزعم تجديدها وتحويلها إلى "شكل أكثر جمالية بمنظور حضاري حديث"
قد يبدو هذا الخبر غير مفهوم وغير منطقي بالنسبة لشعبٍ، تحكمه نخب سياسية متوحشة لم تربِّ على احترام الفضاء العام، ولم تكلف نفسها عناء الانفتاح على ماضيها، لتصنع ذاكرة حقيقية لا تُقصي الآخر بل تقترب منه. المدينة القديمة في دمشق، مثلاً، والتي تعتبر الناجي الوحيد من عمليات التشويه "الحداثي" ومخططات السيطرة، لم تكن بعيدة عن آلة التخريب الاستبدادية. ففي أواخر سبعينيات القرن الماضي، هدمت أجزاء منها، بهدف فتح شوارع رئيسية، وفي منتصف الثمانينيات، هُدم جزء من سوق العصرونية الأثري وسوق "المسكية" المتخصص ببيع الكتب، بهدف إظهار سور القلعة أكثر.
واليوم تفاجئ محافظة دمشق السوريين بإزالة إحدى أهم ساحات العاصمة، "ساحة السبع بحرات"، بزعم تجديدها وتحويلها إلى "شكل أكثر جمالية بمنظور حضاري حديث"، وبكلفة خمسة مليارات ليرة سورية، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من انهيار اقتصادي غير مسبوق، وظروف معيشية قاهرة. أيضاً فوجئ السوريون بإخلاء التكية السليمانية من الحرفيين بعد إغلاقها نهائياً، بحجة ترميم المكان. وفي الحقيقة عمليات الترميم هذه، لا تُنفّذ باحترافية، على الإطلاق، ما يؤدي إلى نجاح سياسة التشويه الخبيث المقصود.
ويبدو أن مفاجآت حكومة النظام الرشيدة لا تتوقف. ففي وقت سابق، بدورهم أهالي حيّ التيامنة، الواقع في منطقة باب مصلى بدمشق، فوجئوا، بمجموعة من الشبان والشابات وهم يلطخون جدران بيوتهم الأثرية القديمة برسومات بدائية، تفتقر إلى أدنى مستوى من الحس الفني تحت مسمى "مُلتقى الفن الطرقي"، في إساءة صريحة ومباشرة للمدينة القديمة المسجلة لدى اليونسكو كتراث عالمي يُحفظ كما هو. هذه المحاولات ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة بالطبع، بل تأتي ضمن سلسلة من الإجراءات المُتعمدة لردم ودفن معالم دمشق، التي لم يتبقَّ لنا منها إلا القليل. وهل ننسى الحرائق المتكررة والمتعمدة في أسواقها القديمة، ومحاولات الاستيلاء على متاجرها وبيوتها التاريخية من قبل الإيرانيين؟!.