واجه السوريون منذ بدء الثورة السورية عام 2011 أحداثاً يومية كثيفة جداً توقاً للحرية والكرامة وبناء بلدهم من جديد، لم تكن التضحيات والبطولات ومشاهد الحرب التي شنها النظام ضد الشعب عنوانها الأبرز فقط، بل عجت ذاكرة الثورة السورية بالأشخاص والأسماء والأماكن والكيانات إلى جانب المظاهرات والحراكات والمعارك دون إغفال الإسهام الفني والثقافي الممتلئ من أغانٍ وأهازيج ولوحات ورسومات وهتافات رافقت جثامين شباب الثورة إلى مثواهم الأخير.
وفي خضم ذلك، يطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الإثنين، مشروع "الذاكرة السورية" بعد 5 أعوام من العمل المضني، تم خلالها إنجاز عمل غير مسبوق وثق ما حصل في الثورة السورية منذ أيامها الأولى حتى عام 2015، من خلال جمع وتدوين وتدقيق عشرات آلاف اليوميات والأحداث والوثائق والشهادات والفيديوهات، في عمل علمي ومهني يؤرخ للحظات لا ينساها السوريون.
وهذا المشروع عمل عليه باحثون سوريون، دونوا ووثقوا تاريخ الثورة السورية بأيديهم في مهمة استثنائية لحماية تلك الأحداث التاريخية المهمة من التزييف والتزوير من قبل النظام السوري والدول الداعمة له إلى جانب الدور العلمي في محاولة التوثيق والتأكد من صحة المعلومات المنتشرة على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
وللوقوف على تفاصيل المشروع الذي يبصر النور اعتباراً من الساعة السادسة من مساء 6 أيار 2024، أجرى موقع "تلفزيون سوريا" حواراً ثنائياً مع كل من مدير مؤسسة الذاكرة السورية الباحث الدكتور عبد الرحمن الحاج، ورئيس تحرير قسم اليوميات في المشروع الباحث أحمد أبازيد.
وقال مدير المشروع الدكتور عبد الرحمن الحاج في تعريفه لمشروع "الذاكرة السورية" وأقسامه والفترة الزمنية التي عمل عليها؟
إن مشروع الذاكرة السورية هو مشروع علمي يهدف إلى توثيق الأحداث بدءاً من عام 2011 والتحقق منها وأرشفة الوثائق والمواد المتعلقة بها سواء أكانت مكتوبة أو مرئية لتكوين مرجع علمي واسع متعدد الأغراض وموثوق يمكن الاعتماد عليه في فهم الأحداث.
والمشروع مؤلف من ثلاثة أقسام رئيسية: هو "اليوميات، والأرشيف، والتاريخ الشفوي".
الباحثون في المشروع عملوا على تقديم مسح دقيق وشامل لليوميات التي جرت بين 2011 و2015، ومزودة بجميع المصادر والوثائق المتعلقة بها، تم تمحيصها والتحقق منها، ونعتبرها أدق سجل لليوميات تم إعداده حتى اليوم. وهي تغطي المدني والعسكري والسياسي، والمحلي والدولي، أي أنها شاملة لكل الأحداث.
وبخصوص التاريخ الشفوي قمنا بتسجيل أكثر من 2500 ساعة، لشهود من مختلف مناطق سوريا، غطت 50% من المناطق الجغرافية التي شهدت أحداثاً وتعتبر أول وأضخم مكتبة للتاريخ الشفوي المرئي في سوريا بعد أحداث 2011.
وأهمية التاريخ الشفوي الذي حققناه أنه يقدم أحداث حية، ويهتم بالمهمشين والمنسيين كما يهتم بالفاعلين للأحداث والمشاركين في صنعها، وتم توفيره للباحثين بصيغ ثلاثة: مكتوب، ومسموع، ومرئي.
القسم الثالث وهو يضم أرشيف ضخم للغاية ومتنوع المحتوى، باختصار يضم 900 ألف مقطع فيديو من أصل أكثر من 2 مليون فيديو تم تمحيصها والتدقيق فيها واستخراج بياناتها الرئيسية وتصنيفها ليسهل الوصول إليها.
ويضم كذلك 50 ألف وثيقة من أكثر من 100 ألف وثيقة تم تدقيقها تعود إلى الكيانات السورية غير الحكومية في معظمها التي ظهرت بعد اندلاع الثورة، وكذلك يوجد نحو11300 إصدار تعود لنحو 346 دورية، معظمها دوريات ظهرت واختفت في سنوات الثورة، كثير منها دوريات محلية كانت تنشر في أحياء أو قرى أو بلدات محدودة، ما يجعل المكتبة الدويات في أرشيفنا هي أضخم مكتبة جامعة لها حتى اليوم، بالإضافة إلى ذلك هنالك قادة بيانات لأكثر من 14500 كيان مدني وعسكري وسياسي نشأ خلال سنوات الثورة بالإضافة إلى الكيان الحكومي وشبه الحكومي من الأجهزة.
ويتضمن أرشيف "الذاكرة السورية" على سبيل المثال لوحات كفرنبل الشهيرة كاملة، والأعمال الفنية الغنائية، هنالك قرابة 650 عملاً، بالإضافة إلى قاعدة بيانات لأكثر من 850 معركة قامت بها الفصائل، ورصد الهتافات خلال السنة الأولى والثانية من الثورة، من خلال قاعدة بيانات خاصة بالهتافات التي ظهرت، بالإضافة أشياء أخرى.
تمثل الثورة السورية حقبة مهمة من تاريخ سوريا المعاصر، ولكنه تاريخ مليء بالذكريات المؤلمة والتضحيات الكبيرة، ما الهدف الرئيس الذي عملت عليه مؤسسة "الذاكرة السورية"؟
لا نهدف من خلال من منصة الذاكرة السورية إلى توثيق الانتهاكات وحسب، نحن نفكر بالمعنى الواسع للتاريخ، بالنطاق الأشمل، الذي تكون الانتهاكات جزءا منه، الذاكرة السورية مليئة بالأحداث والمعاناة، الكثير من الانتصارات والخيبات، الخيام والتهجير والحصار، التعليم والطب والحكم، التضحية والإخلاص والخيانة، كل شيء كان هنالك، وكنا نعمل من أجل أن تبقى الذاكرة السورية حية، لنا ولمن بعدنا.
كان هناك العديد من أعمال التوثيق لأحداث الثورة السورية خلال العقد الماضي، ما المختلف في هذا المشروع؟
معظم المحاولات فردية وتختص بالأرشيف فقط، وهي محاولات مشكورة وتستحق الدعم والتأييد، ولكنها فردية، ولا أحد يعلم مصير ما تم توثيقه، وما هي درجة التوثيق، ولا ما محتوى التوثيق ومدى شموله، هنالك جمع كبير لنواد الأرشيفية.
أولاً نحن قمنا بتمحيص الأرشيف وتقديم ما هو موثوق منه، وأتحناه للعموم وفق أفضل تقنيات العرض الرقمية، صار بإمكان أي سوري، أو أي شخص في العالم الوصول إليه وتصفحه والرجوع إليه في أي وقت، وفي أي موضوع، ويجد مادة موثوقة ومحققة يمكنه الاعتماد عليها.
ثانياً: نحن قدمنا أول مكتبة مرئية للتاريخ الشفوي مخصصة للأحداث منذ 2011، نعم هنالك مشاريع للتاريخ الشفوي قائمة، أولاً معظمها غير مسجل بشكل مرئي (فيديو)، كما أن بعضها من أجل الانتهاكات، كما هو في هولندا، وبعضها من أجل تجميع روايات التهجير والمعاناة وبعضها من أجل المرأة مثل مشروع دولتي، وعلى العموم، لم تتح لليوم مكتبة للتاريخ الشفوي السوري مسجلاً عن هذه الفترة، هذا أول تاريخ مرئي مسجل ومتاح للعموم بهذه الضخامة.
ثالثًا: نحن نقدم يوميات هي سجل يومي للأحداث، نحن أول من يقدم هذا السجل المتكامل والشامل للأحداث، بتوثيق وتحقيق غير مسبوق، يتشكل بكل تأكيد تاريخاً يعتمد عليه في مراجعة الأحداث، لأنه تم على أسس بحثية صارمة، اليوميات المعروضة هي ليوميات الأحداث بين 2011 و2015، وتشمل 25 ألف يومية، بإحالات بلغ عددها 500 ألف إحالة، ومزودة بأكثر من 17000 وثيقة ومرفق، عندما يقال إنه حدث ورد في الذاكرة السورية فيجب أن يكون صحيحاً، فنحن عملنا من أجل أن بناء مرجع موثوق يعتمد عليه السوريون.
كيف ستعرض "الذاكرة السورية" للجمهورين السوري والعربي؟
يمكنه أن يوفر بجميع الفئات ما تحتاجه للوصول إلى معرفة موثوقة للأحداث في الفترة التي يغطيها، وستظهر جميع المواد التي عملنا عليها على شكل منصة رقمية بتكنولوجيا متقدمة ومحركات بحث خاصة مزودة بفلاتر بحث متعددة تضمن الوصول السريع والدقيق للمواد.
عندما نقول إنه مشروع علمي، وأنه قام على أسس بحثية علمية فلا يعني ذلك أنه اعتمد على لغة تخصصية، نحن نقدم مادة خام دقيقة متعددة الأغراض، يمكن لعموم الناس الاستفادة منها، سواء كانوا قراء عاديين، أم باحثين أكاديميين متخصصين، أم كانوا قانونيون متخصصين في الانتهاكات، أو صحفيين يريدون استرجاع الذاكرة، هي تخدم الجميع وتوفر لهم معرفة موثوقة.
ما سبب تأخير إطلاق المشروع لكل هذه المدة، وما هي أبرز العقبات والتحديات التي واجهت فريق العمل؟
السبب الرئيسي هو ضخامة المواد، وتطبيق معايير صارمة لتصنيفها واستخراج بياناتها ونشرها في نفس الوقت، كما هو معلوم فإن الثورة السورية ولدت في وسط ثورة الاتصالات وحصل فيها تدفق هائل للمعلومات أصبح التعامل معها وتدقيقها صعبا للغاية، كما أن التحقق من أحداث مضى عليها سنوات طويلة، وقسم كبير منها تمت إزالته من المنصات الرقمية المختلفة، باختصار المشكلة الأولى هو الكم، كان علينا أن نعالج هذا الكم ولا نهمل منه شيئاً، ألا نجزم بأمر لا توفر المعطيات لدينا قدرة على الجزم به.
عندما بدأنا بالمشروع لم نكن نعلم حدود المواد التي نعمل عليها، كل يوم كنا نكتشف المزيد، لقد وجدنا أنفسنا أمام بحر من المواد الأرشيفية وعلينا أن نختار منا.
الأمر الآخر هو التغطية الموضوعية للموضوعات والجغرافية الزمنية للأحداث، كان علينا أن نكون شاملين، إذ لم نكن قادرين على تقديم كل الأرشيف السوري خلال الفترة، فيجب على الأقل أن نضع الهيكل الرئيس والقسم الأساس الذي يتضمن الرواية، لقد طبقنا هذا في اليوميات، ولم يكن بإمكاننا تقديم مكتبة بهذا الشمول (50% من المناطق التي شملتها الأحداث تم تغطيتها بالشهادات في المحاور المختلفة).
في اليوميات كان علينا أن نقوم بعمليات معقدة من التوثيق والتحقق والتحرير، لقد استغرقت منا وقتاً طويلاً للغاية، وجهودا كبيرة من باحثينا، وكنا حريصين على إخراج يوميات مختصرة وفي نفس الوقت يمكن التوسع فيها عبر المصادر المرفقة، الأرقام والأسماء وتفاصيل الأحداث أخذت وقتاً، على سبيل المثال كنا نتحقق مما إذا كان شخص قتل بشظية ولم يقتل برصاص قناص في المظاهرات عندما تكون لدينا روايات متعددة، ساعدتنا المنهجية التي اعتمدناها في المصادر المحلية على التحقق من الكثير من الأحداث، إضافة إلى ذلك في بعض الأحداث كنا مضطرين للاتصال بالأشخاص الواردين فيها لنسأل عن دقتها وفهما لكتابتها بشكل سليم، خصوصاً في الأحداث التي قد تؤثر في رواية الحدث. نحن لا نعتمد المصادر الدولية كمرجع في الأحداث إلا عندما لا يتوفر مصدر محلي يمكن الوثوق به، بالطبع نحن نحيل إلى جميع مصادرنا، بالإضافة إلى ذلك كنا نبني منصة ونطور فيها، هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها توثيق ثورة بهذا القدر من التوثيق، والربط، كان يجب أن تكون المنصة ملائمة شكلاً ومضموناً وتقنيا للاستخدام وتحمل حجم البيانات (الداتا) وتحقق الوصول السريع، أيضا هذا استغرق وقتاً.
عوامل موضوعية عدة دفعتنا للتأخر، ولكننا نعتقد أننا في النهاية صار لدينا مادة قمنا فيها بعمل بحثي مهم ونوعي، وصار بإمكاننا عرضها للعموم، وهو ما جعلنا الآن مستعدون لذلك.
يلاحظ أن شعار مؤسسة "الذاكرة السورية" هو "تاريخ، توثيق، أرشيف" ما الفرق بين هذه المحددات بالنسبة لعملكم وسبب اختيارها؟
لأن ما نقوم به ليس جمعا للأرشيف إنما توثيقا للأحداث، قمنا بذلك في اليوميات، وليس فقط توثيقا وإنما تأريخا، فنحن قمنا بتسجيل 2500 ساعة في التاريخ الشفوي، وهذا بمثابة كتابة للتاريخ، وقمنا أيضاً ببناء أرشيف واسع جدًا ومحقق والعبارة المذكورة بالفعل تختصر أقسام العمل الذي تضمه المنصة.
وفي القسم الثاني من الحوار ينضم إلينا الباحث أحمد أبازيد رئيس قسم اليوميات في مشروع "الذاكرة السورية" مجيباً على السؤال التالي: هل جاءت فكرة المشروع لحماية تاريخ الثورة السورية من الطمس والتزييف؟
أطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مشروع الذاكرة السورية انطلاقا من مهمة واضحة هي توثيق الثورة السورية، بهدف حفظ الرواية وحماية الذاكرة وأرشفة كل ما يتعلق بالثورة السورية، مما بدأت تطاله يد الحذف أو التشويه أو غياب الشهود نتيجة الوفاة أو الشتات السوري أو النسيان، وقد بدأت جهود توثيق الثورة السورية منذ بدايتها، على يد الناشطين والشبكات الإعلامية المحلية مثل شبكة شام، ولكن طول المدة والضخامة الهائلة للمواد المنشورة وتعدد روايات الأحداث والاستقطاب الذي رافق الثورة السورية في أحيان كثيرة وعدم توثيق كثير من الأحداث بشكل مباشر من الشهود، ترك فجوة وجود أرشيف شامل منظم ومدقق ومبني على معايير ومنهجيات بحثية وعلمية، وهو الهدف الذي أراد مشروع الذاكرة السورية تحقيقه.
وكان للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات جهود توثيقية سابقة مثل مشروع "ذاكرة فلسطين" ودراساته حول الثورة السورية والمصرية والتونسية.
ما المدة التي استهدفت عمليات التوثيق؟ وهل هو تجميع لأحداث الثورة أم يمكن الاستفادة منها حقوقياً إن اعتبرت متقاطعة وموثقة؟
كان للسنوات الأولى من الثورة السورية الاهتمام الرئيس من بحثنا وتوثيقنا، وإن كان قد غطى عملنا أيضاً السنوات اللاحقة. وتختص موسوعة اليوميات بكتابة وتوثيق الأحداث اليومية للثورة السورية منذ آذار/ مارس 2011 حتى أيلول/ سبتمبر 2015، أما الأرشيف فهو موسوعة رقمية تشمل الوثائق والدوريات والملتميديا والشخصيات والكيانات والمعارك والأغاني، ويشمل قسم التاريخ الشفوي مئات الساعات من المقابلات المصورة مع الشهود والفاعلين على أحداث الثورة السورية من مناطق مختلفة.
وتم جمع المادة وتحقيقها بهدف بناء مرجعية بحثية وعلمية محققة حول الثورة السورية، وهو ما يختلف عن طريقة التوثيق الحقوقي، ولكن مواد المشروع يمكن أن يستفيد منها أي مشروع حقوقي، لأنها تغطي الأحداث والانتهاكات وتشمل مئات الآلاف من الوثائق والمواد الأصلية والشهادات والأدلة.
قد يكون الدفاع عن سردية الثورة السورية إنجازا استثنائيا في ظل انكساراتها الأخيرة، لكن هل يوجد ما هو غير معروف أو منتشر واكتشفتموه خلال البحث؟
اعتمدت كتابة اليوميات السورية على منهجية معقدة وسلسلة من إجراءات التوثيق والتحقق ومقارنة المصادر، وشملت الاطلاع أيضاً على رواية النظام، وتضمنت اليوميات في كثير من الأحداث رواية مدققة مختلفة عما انتشر حول هذه الأحداث في وقتها، نتيجة قمع النظام الذي منع حرية العمل الصحفي والحقوقي، وصعوبة الوصول إلى المعلومات الأدق في أوج المعارك والمجازر، أو نتيجة العامل التعبوي والتحشيدي أحياناً.
هل سيكمل مشروع "الذاكرة السورية" أم سيتوقف عند حد معين؟
بإطلاق المشروع في 6 أيار/ مايو 2024 يكون المشروع قد حقق أهدافه، وسيبقى الموقع متاحاً لملاحظات القراء ومقترحات الإضافة والتعديل، وتبقى مهمة توثيق الذاكرة السورية وأحداث الثورة السورية مجالاً مفتوحاً وضرورياً للكثير من الدراسات وجهود التوثيق الفردية والمؤسسية والجماعية التي يقوم بها السوريون منذ آذار 2011 حتى اليوم.