لم ينجح ماكرون في تنفيذ وعده خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة فوزه في الانتخابات الفرنسية قبل خمس سنوات، حين تعهد بمواجهة كبيرة لليمين المتطرف، لتأتي النتائج معاكسة بالمطلق، فبعد أن حصدت مرشحة اليمين (لوبان) أكثر من 42 في المئة من مجموع أصوات الناخبين لانتخابات رئاسة فرنسا، عبرت بها للجولة الثانية دون أي منافسة من بقية المرشحين، تعود لتكتسح قائمة الرئيس الفرنسي ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية.
الصعود المريب لليمين المتطرف يضع المسلمين والعرب في زاوية لا يُحسدون عليها، وإن كان من حيث المبدأ والمنطق السياسي والتفكير بعقل بارد، فوز (لوبان) تجسيدا فعليا للديمقراطية عبر أصوات الناخبين المشاركين، لكنها أسوأ أنواع الديمقراطية، وهي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، أن تعيش القبة البرلمانية لوحة سياسية مختلفة لتلك التي أعتاد عليها الفرنسيون.
ودرجت العادة في فرنسا وربما غيرها أيضاً، على أن يحصد الرئيس المنتخب الغالبية المطلقة، وهو ما يمنحه القوة لتمرير المشاريع في الجمعية الوطنية، أو أن تحصل المعارضة على تلك الأكثرية، فتحول البرلمان إلى ساحة توافقات، يكون الرئيس الفرنسي أكبر الخاسرين فيها، كما حصل في فترة رئاسة جاك شيراك، حين حاصرته قوة تحالف اليسار الموحد بقيادة ليونيل جوسبان، وفرضت عليه حكومة لم يتمكن شيراك من تمرير معظم مشاريعه، بل عاش عزلة واضحة.
ويجد الرئيس الفرنسي نفسه في لوحة شبيهة بعهد (شيراك)، بالرغم من حصده 245 مقعداً نيابياً، ما يدفعه للتنازل لكتلة اليمين الجمهوري ذي الـ 65 نائباً، واليسار ذي الـ 135 مقعداً، هذا إن قبلت تلك الأطراف أن تكون طوق نجاة لماكرون.
وفي الضفة المقابلة، حصد اليمين المتطرف 89 مقعداً، وهو مشهد مخيف ومظلم لمستقبل فرنسا وأوروبا عامة، فيما لو نجح في تشكيل تحالفات لتأسيس الحكومة أو كتلة معارضة قوية، فهم وصلوا إلى القمّة البرلمانية بعد أن كانت كتلتهم لا تتجاوز الـسبعة نواب في الانتخابات الأخيرة، ما يعني أن الشعبوية السياسية والعداء لمعظم قرارات الاتحاد الأوروبي والعمل على خروج فرنسا من الناتو، وتشديد الخناق والحصار على اللاجئين والمهاجرين، وتغريم مرتديات الحجاب في الأماكن العامة وتقنين المساعدات الطبية والمالية لهم، وتفضيل اليد البيضاء في العمل، وإقفال الحدود الوطنية أمام المهاجرين هي السمة الأساسية لفرنسا لو تمكنت (لوبان) من تشكيل الحكومة.
وهو مؤشر على أربع قضايا مركبة، أولها: صعود الخط البياني للجماعات الرافضة للأنواع الاجتماعية والدينية والقومية الأخرى التي تعيش خارج أسلوب العيش والثقافة والانخراط الكلي التام في المجتمع الفرنسي، ثانيها: أن مصير ما بين 6 إلى 6 ملايين مسلم بات يهدده الخطر الجدي، والمزاج المتطرف في فرنسا يتخطى إلى ما خلف الحدود وإمكانية فوز اليمينيين في دول أوروبية أخرى؛ لما لفرنسا من دور محوري في أوروبا وثالثها: أن أصوات اليسار الفرنسي أنقذت البلاد والمهاجرين وخاصة المسلمين من كارثة وصول اليمين للرئاسة، لكنها فشلت في الانتخابات البرلمانية، والرئيس الذي لا يمتلك كتلة حاسمة في البرلمان، لن يتمكن من حماية وتطبيق وعوده، وأخيراً فإن المخاوف الجدية من الصعود المستمر لليمين المتطرف تشكل القضية الرابعة، خاصة بعد الأحداث المؤسفة المتزايدة التي رافقتها ضحايا وجرحى في كثير من المناسبات نجح اليمين في الترويج واللعب على وترها، والشعبوية في طرح الوعود الاقتصادية والرفاهية، دفع بأقل من نصف الفرنسيين لتأييد سياساتها.
تأثير نتائج الانتخابات على المسلمين في أوروبا
السنوات الخمس المقبلة هي الأصعب في تاريخ فرنسا وأوروبا، وتضع المهاجرين المسلمين في أوروبا أمام خطر عميق يحيق بحيواتهم ومستقبل أبنائهم وانتماءاتهم الخاصة. والمشكلة لم تنته بفوز اليسار على اليمين في فرنسا؛ لأن المشكلة أساساً لا تتوقف عند الفرنسيين؛ فالسويد مرشحة لأن تحمل راية أفكار اليمين في الانتخابات التي ستجري في أيلول المقبل.
وتغذي هذه النزعات العدائية ضد المهاجرين والمسلمين على وجه الخصوص، التوجه لتكرار حوادث معينة، رداً على تصرف سياسي يميني سويدي بحرق المصحف، استفزت مشاعر المسلمين وهو حق بطبيعة الحال. فضلا عن أن قانون حماية الأطفال من أبائهم المهاجرين أو المواطنين المحليين الذين يسيئون معاملة أبنائهم، دفع بأزمة بنيوية بين الحكومة والمجتمع الوافد الذي عبر عن رفضه بالعديد من الممارسات التي يستفيد من مجملها اليمين السويدي في الانتخابات المقبلة.
ما جرى ويجري في فرنسا والسويد، هو صور طبق الأصل باختلاف التفاصيل عن ردّات فعل جزء مهم وخطير من المجتمعات المحلية الأوروبية تجاه المهاجرين في المجتمعات الجديدة، وبات لزاماً على المهاجرين إلى أوروبا البحث عن أفضل الطرق والسبل للعيش كمواطنين وفق قوانين تلك البلدان والمساهمة في فوز الكتل السياسية الديمقراطية ومواجهة اليمين المتطرف.
والغريب في الأمر أن يصر البعض ممن فشل في التأقلم والاندماج، على الحياة الانعزالية عن أحياء ومجتمعات لجؤوا إليها بحثاً عن الأمان والاستقرار المفقود في مجتمعاتنا، ويختارون معاكسة القيم والثقافة الغربية كأسهل طريقة للتغطية على فشلهم وعجزهم عن مجاراة الحداثة والحضارة، وبالمقابل انخرطت واندمجت أعداد كبيرة من الوافدين، ووصل أبناؤهم إلى مستوياتٍ متقدمة في السلم الوظيفي، والمناصب، والشهادات الجامعية، خاصة مع ما تمنحه أحزاب اليسار والليبراليين من حريات فردية ومسارات للوصول إلى أبعد من التوقعات.
تأثيرات الانتخابات الفرنسية على حرب أوكرانيا
مباركة الدول الفاعلة في الشأن العالمي كأميركا ودول أوروبية لفوز ماكرون على اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية، توحي بأنها انتخابات اللحظات الحرجة التي كانت ستعصف بفرنسا وأوروبا صوب فترة حكم كارثية، حيث شكلت نتائج الانتخابات تعزيزاً للموقف الفرنسي من الحرب الروسية على أوكرانيا، بل هو انتصار لنهج الديمقراطية بعد سنوات من فوز الشعبوية في أميركا ودول أوربية مثل هنغاريا وغيرها من الكتل الانتخابية الفائزة والرافضة للمهاجرين ووجودهم.
وخسارة (لوبان) تعني ضربة قاصمة لبوتين الذي خسر أبرز حليف مناوئ للاتحاد الأوروبي الرافض لحرب موسكو ضد كييف، خاصة أن عصب التحالف الاستراتيجي بين بوتين ولوبان قائم على كراهية الاتحاد الأوروبي، لذلك فإن خسارة اليمين هي خسارة لبوتين الذي لم يتمكن بعد من فك طلاسم الدفاع الأوكراني في وجه الهجوم الروسي.
لكن انتخابات البرلمان الفرنسي، قلبت المعادلة وأعادت الروح إلى تحالف (لوبان - بوتين)، وفي حال فشل ماكرون في عقد تحالفات متينة تمكنه من السيطرة على البرلمان، يبقى أمامه خيار الدعوة إلى إعادة الانتخابات، وهو ما يكفله الدستور الفرنسي، أو سنجد مشهداً مريباً ومخيفاً لفرنسا وأوروبا.