قبل أن تضع الحرب على غزة أوزارها، تتعالى الأصوات التي تدعو لإقامة دولة فلسطينية مستقلة كمخرج وحيد للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولعل هذا يحسب للمقاومة الفلسطينية في غزة التي أعادت إحياء الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية بعد أن تحولت إلى ملف منسي في زحمة القضايا العالمية الساخنة.
وهذا الاهتمام بالبحث عن "حلول" في غزة بعد أن يهدأ صوت الانفجارات، هو محاولة لتقديم تصورات لإسرائيل المنشغلة بتدمير قطاع غزة والانتقام من أهله، دون التفكير في "اليوم التالي" للحرب التي تقول، ويردد معها الأميركيون، إنها لن تتوقف إلا بعد إنهاء حكم "حماس" للقطاع.
والواقع أن إسرائيل التي اكتفت بتقديم تصورات مقتضبة وغير عملية لمصير قطاع غزة في حال تمكنت بالفعل من تغيير الإدارة الحاكمة هناك، من قبيل أن تتولى هي السيطرة الأمنية مع إدارة دولية أو بمظلة السلطة الفلسطينية للقطاع، لم يصدر عن قادتها أي تعليق بشأن اللغط الدولي الخاص بـ "حل الدولتين"، لكن الجميع يدرك من التجربة التاريخية السابقة، المفهوم الإسرائيلي لما قد يسمى دولة فلسطينية، والذي لا يخرج عن إطار "الحكم الذاتي" دون سيادة سياسية أو أمنية.
كان مقررا بموجب اتفاق أوسلو الموقع عام 1993 البت في قضايا "الوضع النهائي"، أي القدس واللاجئين والترتيبات الأمنية ومصير المستوطنات، بعد ثلاث سنوات من بدء العمل بالسلطة الفلسطينية الانتقالية
وقبل أسبوع واحد فقط من هجوم 7 أكتوبر الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام لجنة الخارجية والأمن بالكنيست الإسرائيلي أنه "يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم"، وهو التصريح الذي لم يلق أي اكتراث من المجتمع الدولي، في غمرة الإهمال الدولي للقضية الفلسطينية، برغم تعارض التصريح مع المواقف المعلنة لغالبية الدول التي تتبنى "حل الدولتين".
لقد كان مقررا بموجب اتفاق أوسلو الموقع عام 1993 البت في قضايا "الوضع النهائي"، أي القدس واللاجئين والترتيبات الأمنية ومصير المستوطنات، بعد ثلاث سنوات من بدء العمل بالسلطة الفلسطينية الانتقالية، على أن تنتهي هذه المفاوضات خلال سنتين من بدئها، أي بعد خمس سنوات من إنشاء السلطة الفلسطينية، وينتج عنها حل دائم للقضية الفلسطينية بحلول منتصف العام 1999. وطبعا لم ينجز شيء من ذلك بسبب المماطلة الإسرائيلية، لتبدأ بعد ذلك رحلة طويلة من المفاوضات بين الجانبين تنقلت بين عواصم وأماكن عدة، دون أن تسفر عن شيء، وكانت أبرز المحطات مفاوضات "كامب ديفيد2"في ولاية ميرلاند الأميركية والتي جمع فيها الرئيس الأميركي بيل كلينتون عام 2000 كل من رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ووصفت بأنها "الفرصة الضائعة" الأخيرة لإبرام اتفاق سلام بين الجانبين. وقد سوقت المصادر الإسرائيلية أن الجانب الفلسطيني هو المسؤول عن فشل المفاوضات، بينما الحقيقة أن إسرائيل لم تقدم عرضا يمكن للفلسطينيين القبول به، وخاصة بشأن مصير مدينة القدس. وقد أراد الفلسطينيون أن تكون لهم السيادة على المدينة التي ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية الوليدة، وخاصة المسجد الأقصى، مع موافقتهم على وضع الحي اليهودي والجدار الغربي تحت السلطة الإسرائيلية، وأن تكون القدس مدينة مفتوحة ويتعاون الجانبان في الخدمات البلدية، بينما أصر الإسرائيليون على إعطاء الفلسطينيين مجرد سيادة رمزية على الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة.
وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد، أطلقت اللجنة الرباعية للشرق الأوسط والتي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عام 2003 "خارطة الطريق" التي تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول 2005 مقابل إنهاء الانتفاضة الفلسطينية آنذاك وتجميد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. وقبلها كانت مبادرة السلام العربية التي طرحت في قمة بيروت عام 2002 واقترحت إقامة دولة فلسطينية مقابل إقامة علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل.
ويتضح من الطروحات الإسرائيلية السابقة، والتي جاءت في مرحلة سيطرة "اليسار" الصهيوني على الحكم في إسرائيل المتمثل في حزب العمل وشركائه، أن أقصى ما طرح على الفلسطينيين هو نوع من الحكم الذاتي على السكان، بينما تبقى السيادة الإسرائيلية على الأرض.
واليوم بعد 30 عاما على توقيع اتفاق أوسلو، فقد تضاعف الاستيطان في الضفة الغربية 7 مرات، وباتت المستوطنات مع مناطق نفوذ المجالس الإقليمية للمستوطنات، تستحوذ على 42 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، وتضم نحو 750 ألف مستوطن، صعودا من 140 ألف مستوطن عند توقيع اتفاق أوسلو.
والأخطر من اتفاق أوسلو، هو ملحقه "اتفاق طابا" عام 1995 والذي قسم الضفة الغربية إلى 3 مناطق، (أ) وهي المدن والبلدات الفلسطينية الكبيرة، و(ب) التي تضم القرى والبلدات الصغيرة، و(ج) وهي المساحة الأوسع وتساوي نحو 62 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وتخضع إدارياً وأمنياً للسيطرة الإسرائيلية الكاملة. وهذا التقسيم عكس المطامع الإسرائيلية في هذه المنطقة المسماة (ج) بوصفها المجال الحيوي لمشروعها الاستيطاني، حيث لا يحق للفلسطينيين ممارسة أي نشاط في مجمل المنطقة التي تضم معظم الموارد الطبيعية في الضفة الغربية. أما مناطق "أ" و"ب" الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، فقد تحولت إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض بالكتل الاستيطانية والشوارع الالتفافية وبعض أجزاء الجدار الفاصل الذي بني عام 2002.
إن برنامج الحكومة القائمة اليوم في إسرائيل والتي يعتبر حزب الليكود اليميني برئاسة بنيامين نتنياهو الأقل تطرفا فيها، هو البحث عن سبل مصادرة الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات وتهويد القدس والمسجد الأقصى
ومع صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى الحكم في إسرائيل نهاية العام الماضي، استهدفت خطط الحكومة رفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية إلى نحو مليون مستوطن خلال العامين المقبلين.
والواقع إن برنامج الحكومة القائمة اليوم في إسرائيل والتي يعتبر حزب الليكود اليميني برئاسة بنيامين نتنياهو الأقل تطرفا فيها، هو البحث عن سبل مصادرة الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات وتهويد القدس والمسجد الأقصى، دون أن يلحظ أي اهتمام من جانبها بعملية السلام مع الجانب الفلسطيني. وبمجرد نيلها ثقة نهاية العام الماضي، أعلن نتنياهو أن حكومته ستعمل على تعزيز الاستيطان بالضفة الغربية، ومنذ ذلك الحين، تزايدت وتيرة اعتداءات المستوطنين في الأراضي الفلسطينية.
لقد تسبب المستوطنات والسياسات الإسرائيلية المتبعة لتطويرها وتوفير الأمن لها، إلى القضاء على فرصة قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وقابلة للحياة، فضلا عن الآثار المدمرة للوجود الفلسطيني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، خاصة مع سيطرة الاحتلال على أهم الموارد الاقتصادية الفلسطينية في الضفة الغربية. وأدت هذه السياسات إلى تعميق تبعية المجتمع الفلسطيني لإسرائيل ولاقتصاد المستوطنات في الضفة الغربية الذي تسخر له الحكومة كل الموارد المتاحة في الضفة، وتحول الفلسطينيون إلى مجرد عمال في المستوطنات، وعليه فإن إقامة دولة فلسطينية تتمتع بالحد الأدنى من المقومات غير متوفرة ضمن المعطيات الراهنة، الميدانية منها، والسياسية المتصلة بعدم جاهزية إسرائيل للتخلي عن سياستها الثابتة والرامية دوما إلى الاستحواذ على أكبر ما يمكن من الأرض الفلسطينية، بأقل ما يمكن من السكان العرب.