ما زلتُ أذكر أن أحد أصحابي اتصل بي، بعد واحدة من أمسياتي القصصية، ونبهني إلى أنني استخدمت، في إحدى القصص الفعل (فشلَ)، بينما كان حرياً بي أن أقول: أخفق.
ضحكت في سري، وقتئذ، لأن الرجل لم يأتِ على ذكر مضمون القصص، أو تقنيات السرد، ولم يعلمني إن كانت قصصي، في نظره، ممتعة، أو "بتهوّي".. ولكنني، الآن، أفكر أن استخدام أية صيغة شائعة، مثل (الدولة الفاشلة)، حتى ولو كانت تنطوي على خطأ لغوي، أفضل من استخدام صيغة صحيحة ولكنها مهجورة، مثل: الدولة المخفقة..
في معرض بحثنا عن تعريف جامع مانع لـ الدولة الفاشلة، نتذكر، على الفور، ما يسمى في الطب "الفشل الكلوي"، وهو مرض خطير يوصل صاحبَه إلى الغسيل، بانتظار أن تتمكن أسرتُه من جمع مبلغ خيالي، وشراء كلية من إنسان فقير ومعيل.. وللعلم، فإن الشعوب الغلبانة التي تعيش في دول فاشلة، يكثر فيها، في أثناء الأزمات الحادة، بائعو الكلى، وهذا ما عالجه صديقنا الأديب والسيناريست ممدوح حمادة في مسلسله "ضبوا الشناتي" بطريقة أخاذة..
بإمكان أمين الفرقة الحزبية في كلية التربية، بدولة فاشلة مثل سوريا، أن يدخل إلى مكتب المربي الفاضل، عالم النفس، الدكتور فاخر العاقل (1918- 2010)، وفي يده ورقة أكبر من حصيرة تسعاوية، ويقول له:
- عبي لنا هالاستمارة دكتور، بدنا ننسبك للحزب..
وإذ يعتذر له الدكتور فاخر، بأنه لا يمتلك وقتاً للالتزام الحزبي، فهو مشغول بتأليف كتب في علم النفس، وإعداد المحاضرات التي يلقيها على طلابه، يقول له أمين الفرقة، وهو ينتش الاستمارة من أمامه:
- بالناقص!
لا يُعَاقَبُ أمين الفرقة الحزبية على قلة أدبه مع عالم جليل، ولا ندري إن كان قد كوفئ عليها.. وأنا هنا لا أفتئتُ على الحقيقة.. فمعلوم للجميع أن حافظ الأسد، مؤسس الدولة الفاشلة السورية، ما غيره، كان يملأ فمه، أو، كما يقول أهل معرتمصرين، (يتمشدق) بقوله إن سوريا دولة العمال والفلاحين..
حري بمجلس مختص بمراقبة السلطة التنفيذية، وإصدار القوانين التي تنظم حياة الناس، أن يزدحم بأصحاب الشهادات العليا
أسارع هنا إلى القول إننا نحترم العمال والفلاحين، فهم أهلنا ومواطنونا المنتجون المحترمون، ولكن الدول العصرية، يا عين عمك، تُبنى بالعلم، والفلسفة، والصناعة، والتجارة، والحريات، والعدل، وتحتاج إلى عدد كبير من رجال الدولة المخلصين، ولا تبنى بالشعارات الديماغوجية.. بمعنى آخر: لا يستطيع عاقل، في العالم كله، أن يغض الطرف عن الخطأ الفادح الذي ترتكبه الدولة البعثية الأسدية الفاشلة عندما تعمد إلى جعل نسبة العمال والفلاحين وصغار الكسبة في المجلس التشريعي (مجلس الشعب) ستين بالمئة من إجمالي الأعضاء، فالحري بمجلس مختص بمراقبة السلطة التنفيذية، وإصدار القوانين التي تنظم حياة الناس، أن يزدحم بأصحاب الشهادات العليا، في الحقوق، والاقتصاد، والهندسة، والطب، والفيزياء، والهندسة الزراعية، والإلكترونيات، وأن يكون المكان الطبيعي لإخوتنا العمال معاملهم، وللفلاحين حقولهم..
ينطبق على توصيف الدولة السورية الفاشلة ذلك المثل الشعبي المصري القائل (نجيبها منين ولا منين)؟ بمعنى أن الحديث عن أعراض فشلها يشبه ما يسميه السوريون "سيرة الأفعى"، سلب، ونهب، وقتل، وتعذيب، وتهجير، وتعفيش، وكتابة تقارير.. وواحد أمي مثل محمد قبنض يقف في مجلس الشعب ويقول:
- سنحارب "الإرهابيون" بالطبل والزمر.
وعضو آخر، عمله الأساسي في كازية بنزين يقترب من بشار الأسد، عند مدخل مجلس الشعب، ويلحمس بيده على صدره كما لو أنه معبود، ويقول له إن العدل يقضي ألا يكتفي بقيادة سوريا، بل العالَم.. بينما يأمر وريث حافظ الأسد (الذي يليق به أن يحكم العالَم) بأن يُسجن عالم الاقتصاد الدكتور عارف دليلة عشر سنوات عجافاً لأنه تجرأ فقال إن دخل الخليوي لا يجوز أن يُعطى لرامي مخلوف! ثم يطلقون سراحه بعد سجن دام سبع سنوات، فيأتي مَن يبشره قائلاً: الرئيس عفا عنك..
لو كان مَن يقرر السياسات الاقتصادية لسوريا، من أمثال الدكتور عارف، لما لجأت الدولة إلى دعم المواد الاستهلاكية الضرورية أصلاً، فما يوفره المواطنون الفقراء في أثناء استهلاكهم تلك المواد، تتكبده خزينة الدولة، يعني لا يوجد توفير، في هذه الحالة، بل هدر.. نعم، حبيبي، أنا أعني ما أقول، هدر، بدليل أن المادة المدعومة بشكل أساسي، وهي الخبز، (التي كان الرفاق أعضاء الحزب الشيوعي البكداشي يتباهون بأن لقب حزبهم هو: حزب الخبز)، وبسبب رخص ثمنها، كان بعض التجار يشترون منها كميات كبيرة، وييبسونها، ويحولونها إلى علف للبقر، وللدجاج، يحدث هذا في حين يقتتل أبناء الشعب السوري، الغلبان، المدعوم، الذي يعيش في الدولة الفاشلة، على أبواب الأفران، لتحصيل ربطتين أو ثلاثٍ لعيالهم، ويبتلعون، في أثناء ذلك، أرياقهم إذ يرَون سيارات المخابرات تشفط، وتهاجم جموعهم، فتُفتح لها الأبواب، وتقذف إليها ربطات الخبز من فوق الروؤس..
وعلى كل حال، الخبز، المادة المحبوبة بكداشياً، لقمتُه صغيرة، في حين كان المازوت (وما يزال) يسبب لاقتصاد الدولة الفاشلة نزيفاً مستمراً، إذ، وبمجرد ما أمر حافظ الأسد بدعمه، في السبعينيات، غادر قطيع كبير من تجار البرجوازية الطفيلية أعمالهم الأخرى، وتفرغوا لتهريب المازوت السوري الذي تُستورد مادته الخامُ وتكرر في مصفاتي حمص وبانياس، إلى تركيا ولبنان.. لا يتخيلنَّ أحدُكم أنه يهرب بالتنكات والبراميل، على ظهور الجحاش، بل بسيارات وصهاريج كبيرة.. وطريق التهريب يباع، يوم مرور البضاعة، من قبل حرس الحدود، وضباط المخابرات، والجمارك، للمهربين بمبالغ طائلة.. ولا ننسَ أن بلدة نيصاف القريبة من الحدود اللبنانية، عرفت، في يوم من الأيام، بـ (مدينة تهريب المازوت).
كم من أوقات العمل تُهدر عندما يقف المواطنون ساعات طوالاً عند أبواب المؤسسات الفاشلة
محسوبكم، كاتب هذه المقالة، لا يدافع هنا عن قرار حكومة بشار الأسد الفاشلة في رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية الضرورية.. بالعكس، الأمر يبدو الآن وكأنه إجهازٌ على الناس الذين أفقرتهم السنوات الأخيرة حتى الحضيض.. ما أردته أن أقول إن هذا كله مفتعَل.. فلو كان دخل الفرد يليق بالإنسان السوري، والسلع متوفرة في الأسواق، فلا توجد أية ضرورة لدعمها، ثم رفع الدعم عنها.. ولا يفوتني أن أقول إنه ليس الاقتصاد وحده الذي ينزف بسبب التهريب، على يد الطبقات الطفيلية، بل ثمة هدر غير مرئي للقوى العاملة، تخيلوا، فقط، كم من أوقات العمل تُهدر عندما يقف المواطنون ساعات طوالاً عند أبواب المؤسسات الفاشلة، وكم يستهلك من فوسفور أمخاخهم في نصب الكمائن للخبز والأرز والسكر والمازوت.. لو كانت هذه المواد متوفرة، بالقرب منه، فكم من الجهد والمال يتوفر للمجتمع؟
خلاصة: الأوضاع الشاذة التي تخلقها الدول المستبدة الفاشلة مقصودة.