بنظرة عامة على الدعايات الحكومية الإيرانية حول الإنتاج المحلي للأدوية الإيرانية وأثرها على المرضى، يصطدم القارئ بالعديد من الادعاءات التي تطلقها كبرى شركات الأدوية الإيرانية التابعة لمنظمة "أستان قدس رضوي"، والحرس الثوري الإيراني، والمقر التنفيذي لأوامر الإمام، حول ما يطلق عليه الاكتفاء الذاتي في مجال صناعة الدواء الإيراني وكسر احتكار الشركات الأجنبية للدواء.
هذه الدعايات الواسعة تأتي في الوقت الذي تعتبر فيه القدرات الإيرانية في مجال التصنيع الدوائي شيئاً لا يذكر، ناهيك عن أن أغلب المواد الأولية المستخدمة في صناعة الدواء الإيراني يتم استيرادها من دول مثل الهند والصين وروسيا ودول أوروبا الشرقية، أو من دول أوروبية كإسبانيا وإيطاليا.
وعلى الرغم من أن أغلب مسؤولي وزارة الصحة الإيرانية يتحدثون عن أن أكثر من 90% من الدواء هو صناعة محلية داخل إيران، إلا أن العقيد أحمد عبد الله، نائب رئيس هيئة الصحة والعلاج في الحرس الثوري الإيراني، دحض في حديث له مع وكالة أنباء إيلنا في كانون الأول 2018، هذه الدعايات الكاذبة، قائلاً: "صحيح ما يقال أن 80% من دوائنا هو صناعة محلية، لكن للأسف فإن أغلب المواد الأساسية والأولية التي تدخل في تركيب هذا الدواء يتم استيرادها من الخارج".
دواء الحرس الثوري غير فعال و"ضار"
بطبيعة الحال، لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يعتبر أن الدواء الإيراني يمكن أن يكون بديلاً ناجعاً عن الدواء الأجنبي، حتى لو حملت النسخة الإيرانية نفس التركيبة الدوائية الموجودة في المنتج الأصلي.
ولو فرضنا أن الدواء الإيراني "البديل" يحمل نفس تركيبة المواد الأولية الأصلية للدواء الأجنبي، لكن الخبرة وتعقيدات العمل في عملية الخلط والحصول على المنتج النهائي هو ما يحدد نسبة الحصول على منتج فعال بديل عن الدواء الأجنبي.
بعبارة أخرى، لا ترتبط فعالية الدواء بالمواد الأولية الجيدة التي تدخل في تركيبته فقط، بل تعتمد على العملية والنسب الصحيحة خلال عملية خلط وصناعة هذا الدواء. وعلى سبيل المثال، في عام 2011، أعلن عدد من صناع الأدوية الإيرانية، في بيان موقَّع نُشر على موقع "ألف" الإيراني كسرهم احتكار الشركات الأميركية لدواء إم إس (التهاب الجهاز العصبي المركزي الدماغ والنخاع الشوكي)، وهو أحد الأدوية الاستراتيجية والمهمة التي كان من الممكن أن تقلل كثيراً من مخاوف المصابين بهذا المرض.
ومع دخول هذا الدواء إلى السوق، أصيب الأميركيون بالذهول، حتى إن أسهم الشركات الأميركية المصنعة لهذا الدواء واجهت صدمة خطيرة من موجات انخفاض الأسعار، لكن بعد فترة وجبزة تبين أن هذا الدواء الإيراني يسبب عند المرضى الذين تناولوه نسبة حساسية في الأعصاب الحركية الطرفية أعلى من المعيار الأساسي للدواء الأميركي الأصلي، مما دفع الموقعين على البيان السابق، الذين يتكون غالبيتهم من قادة وضباط الحرس الثوري الساعين للحصول على المكاسب المالية البحتة بغض النظر عن سلامة الناس، لنفي توقيعهم على هذا البيان.
الجدير بالذكر أنه في 12 تموز 2017، تحدث الدكتور درودي، وهو أحد المختصين الإيرانيين في مجال الطب النووي، على أحد وسائل الإعلام الإيرانية عن أن "إيران ليست جزءاً من منظمة التجارة العالمية، ولم تكتشف أبداً أي جزيئات دوائية جديدة (مولكول دوائي)، وجل ما يمكن أن تعمله إيران هو إعادة صياغة الأدوية فقط، وعملياً لا وجود لأي براءات اختراع أو احتكار للشركات الإيرانية في هذا المجال".
ما يحصل حقيقة هو أن شركات الدواء الإيرانية تقوم باستيراد المواد الأولية المؤثرة، ومن ثم تقوم بإيصال هذه المواد بجودة منخفضة إلى مرحلة الاستعمال، وثم تقوم بطرح منتجاتها في الأسواق للبيع.
ومن أجل تشجيع المرضى على شراء منتجاتها منخفضة الجودة، تؤكد لهم أن هذا الدواء يتم إنتاجه بموجب ترخيص شركة أجنبية مشهورة، من خلال وضع علامة هذا الترخيص على أغلفة منتجاتها الدوائية.
لا ثقة للإيرانيين بالدواء المنتج محلياً
أدى استهلاك الأدوية الإيرانية عديمة الفعالية إلى فقدان ثقة المرضى الإيرانيين بهذه المنتجات المحلية، التي لم يكن لها أي تأثير على عملية العلاج، وأدت في بعض الحالات لظهور مضاعفات خطيرة عند المرضى الذين أقدموا على تناولها.
على سبيل المثال، تسببت الأدوية الإيرانية عديمة الفعالية ومنخفضة الجودة بالعديد من المخاطر على حياة بعض مرضى القلب والأوعية الدموية.
يقول وحيد شيراني، أحد مؤسسي أول مركز علاجي خاص لمرض التلاسيميا (اضطراب دم وراثي) في حديث له مع موقع "همشهري" الإيراني في كانون الأول 2012: "تختلف العينات الإيرانية من أدوية التلاسيميا اختلافاً كبيراً عن العينات الأجنبية، في حين أن هذه الأدوية لها العديد من الآثار الجانبية الجسدية، وتتسبب في اضطرابات في الكبد والكلى والقلب والقرنية وفرط الحساسية".
الجدير بالذكر أنه في تموز 2019، أفادت وكالة أنباء برنا الإيرانية بإعادة شحنات أدوية إيرانية من العراق بسبب جودتها المنخفضة، لكن المسؤولين الإيرانيين حينها تذرعوا أن سبب إرجاع هذه الشحنات، كان منع بيع الأدوية الإيرانية لدول الجوار بسبب العقوبات الأميركية، علماً أن العقوبات الأميركية لم تشمل أبداً القطاع الصحي الدوائي في إيران على مدار العقود الأربعة الماضية.
الدواء الإيراني في سوريا والاستحواذ على أكبر المعامل السورية (تاميكو)
وفقاً لتقارير وزارة الصحة التابعة للنظام، كانت صناعة الدواء السوري تغطي 93% من احتياجات السوق المحلية في عام 2010، حتى إنها باتت منافساً رئيسياً للدواء الإيراني في الأسواق المجاورة، خاصة في السوق العراقية الواسعة والمدرة للأرباح.
لكن نقل غالبية المعامل السورية أنشطتهم إلى دول أخرى بسبب الحرب، وصدور قرار من وزارة الصحة في حكومة النظام بوقف استيراد الدواء الأوروبي من لبنان بشكل قطعي، فتح المجال واسعاً، بموافقة نظام أسد، أمام الشركات الإيرانية للاستحواذ على قطاع التصنيع الدوائي في سوريا، فيما بدا كعمل انتقامي يهدف لضرب الصناعة الدوائية المنافسة في سوريا، وعدم السماح لها بالتعافي من خلال إجبار العديد من المعامل السورية على تجميد إنتاجها، أو الاستحواذ على مقر أكبر معمل للدواء في سوريا (معمل تاميكو) في الغوطة الشرقية، تحت بند اتفاقيات الغرفة التجارية السورية الإيرانية.
هذا الأمر ظهر جلياً في تصريحات عدد من موظفي الشركة الإيرانية (بارس للأدوية) في المعرض الذي عقد في سوريا في شهر كانون الثاني 2018، حيث تحدث محمد هادي مورعي، المدير التنفيذي لخبراء التصدير في شركة تبيكو الإيرانية عن أن شركة تاميكو في المليحة تواجه صعوبات في الإنتاج بعد الحرب، وشكل ذلك فرصة لمشاركة أفضل لشركات الدواء الإيراني، ويمكن لصناعة الأدوية الإيرانية أن تتخذ خطوات كبيرة لإحيائها.
وبالإضافة إلى استحواذ الشركات الإيرانية على أكبر معمل للدواء في سوريا، تسعى هذه الشركات إلى السيطرة بشكل كامل على سوق الدواء في سوريا، مستعينة بالتسهيلات التي يقدمها لها نظام أسد من خلال إبرام الاتفاقيات الاقتصادية التي تمخضت مؤخراً مطلع 2019 عن ثلاثة مشاريع إيرانية حيوية تتضمن إنشاء معمل حليب أطفال ومعمل أدوية لأمراض السرطان، وآخر للسيارات.
حليب أطفال إيراني غير صحي إلى سوريا
في الأشهر الماضية، وتحديداً في شهر أيلول 2020، تحدث حميد خدايي، المدير التنفيذي لشركة حليب الأطفال الجاف (بغاه) عن إرسال هذه الشركة لشحنة تشمل 40 طناً من حليب الأطفال الجاف المنتج في هذه الشركة، ويحمل علامة (لاكتوميل) على أغلفتها، إلى سوريا ( بقيمة تعادل 80 ألف دولار أميركي).
لكن الجدير بالملاحظة، هي أن تقريراً نشره موقع مشرق نيوز الإيراني كشف فيه وجود بكتيريا مضرة ونسبة كوليسترول حر (زيت النخيل) في حليب الأطفال الإيراني الجاف، الأمر الذي يعرض الأطفال لمجموعة واسعة من الأمراض المعدية.
بالإضافة لذلك، تحدث التقرير عن أن زيت النخيل الذي يعتبر أحد الدهون المشبعة التي تدخل في منتجات شركة بغاه الإيرانية، يرفع ضغط الدم، ويتسبب في تصلب جدران الشرايين، مما قد يمهد الطريق للإصابة بأمراض القلب.
في الحقيقة، قد تكون الأدوية الإيرانية أرخص من الأدوية الأجنبية لكن جودتها وفعاليتها المتدنية مقارنة بالأدوية الأجنبية، ومضاعفاتها الخطيرة على المرضى في بعض الأحيان، أفقدت المستهلك في الداخل الإيراني وفي الدول المستوردة لهذه الأدوية كسوريا والعراق، ثقته بهذه المنتجات.
وما نشاهده من دعايات حكومية إيرانية مضللة حول الاكتفاء الذاتي في مجال التصنيع الدوائي وكسر احتكار الشركات الأجنبية لا يعني أبداً أن إيران قادرة على منافسة الدول المتقدمة من حيث إنتاج أدوية بديلة ذات جودة وفعالية مرتفعة.