في الطريق من إدلب إلى اعزاز وعند توقف آليتك اضطراراً إما لنقطة تفتيش أو بهدف الاستراحة، لا بدّ أن ينكب عليك طفل يحمل صندوقاً من البسكويت، يحاول من النافذة ما استطاع إقناعك بشتى الحيل بشراء أية قطعة تخفف من حمله الثقيل، أو بمعنى أوضح تمكنه من بيع الكمية المتوفرة لديه وتحقيق النصاب من المبيع ليعود إلى بيته مطمئناً بأنّ ثمّة عشاء قبل النوم بما جناه متنقلاً تحت أشعة الشمس صيفاً أو الأمطار شتاءً.
دفع تردي الظروف المعيشية لفئات واسعة من الأطفال إلى العمل مُكرهين مبعدين عن مقاعد الدراسة أو حتى تفاصيل الطفولة البسيطة من اللعب وغيرها، تحديداً الأطفال الأيتام الذين فقدوا المعيل نتيجة القصف العشوائي أو المعارك العسكريّة أو ممن حطت بهم رحال التهجير في مخيمات النزوح والبؤس العشوائية.
ولا يخفى على متنقل أو مقيم في مناطق شمال غربي سوريا الخاضعة للمعارضة حجم التشرّد والعمالة بين أوساط الأطفال، والتي خلّفت ظاهرة التسوّل مؤخراً وباتت تتطور شيئاً فشيئاً مع الوقت، لفئة هي الأضعف في مجتمع ضربه الفقر والبطالة وهزّت أركانه حملات النظام وحليفه الروسي العسكرية.
من أجل العشاء
يمكن في بعض الأماكن العامة وعلى وجه الخصوص أمام جامعة "حلب في المناطق المحررة" في مدينة اعزاز، أن تلحظ طفلةً سمراء صغيرة غطى القهر ملامح وجهها الناعم، تجول بين الطلاب تعرض بضاعة من البسكويت بأي ثمن وقد تصل خلال إقناعك إلى درجة عرضها مجاناً علّها تحظى باستعطاف لشراء القطعة منها.
إنها "أمينة" من قاطني مخيم سجو بريف حلب الشمالي، تجول مع أخيها الصغير، الطرقات والأماكن العامة في مدينة اعزاز، ترافقهم أيضاً ابنة عمّتها "ندى".
لدى سؤالنا في موقع "تلفزيون سوريا" لـ "أمينة" عن سبب عملها في هذا السنّ المبكر -وهي في عمر الـ 9 سنوات-، قالت إن عليها تأمين وجبة العشاء لعائلتها، والسبب أنّ والدها غير قادر على العمل ويعاني من "الدسك" أو ما يعرف علمياً بـ " الانزلاق الغضروفي" أما أمها فقد توفت قبل أشهر بمرض "السلطان" قاصدةً السرطان.
لا يتجاوز المبلغ الذي تجنيه مع أخيها في أحسن الأحوال الـ 10 ليرات تركيّة، إلا أنّها صارت تألف الحال الذي وصلت له فضلاً عن اكتسابها مهارات لإقناع الزبون بالشراء.
ربطة الخبز.. هم كبير على عاتق الأطفال
تحت ساعة إدلب الشهيرة وسط المدينة، وخلال جلوسك على كرسي جانب إحدى مقاهي "الإكسبريس" يقبل إليك طفل يحمل كيساً أسوداً يسأل من "مال الله" أو أي شيء متوفر لدى المسؤول، من طعام يضعه في الكيس ليقتات منه مع إخوته.
أشار الطفل "محمد" في حديثٍ مقتضب إلى أنّ هناك أخاً له يجول في حي آخر في المدينة ويبدو من أجل المهمّة ذاتها، واللقاء قبل حلول الظلام سيكون هنا في ساحة الساعة للرجوع إلى حيث إقامتهم، وهو مخيم عشوائي على أطراف مدينة إدلب الغربيّة.
يوضح "محمد" أنّ شراء ربطة الخبز هو همّه فقط، وحين السؤال عن والديه قرر الانسحاب بابتسامةٍ وذهب بعيداً لإكمال مهمّته.
المخيمات.. أس الألم
في مخيم "سيالة" العشوائي للمهجرين الواقع قرب الطريق الدولية باب الهوى ـ إدلب، يتجهز هذه الأيام أكثر من 50 طفلاً من المخيم للانضمام إلى مجموعات قطاف الزيتون مع اقتراب الموسم، ضمن عمال "المياومة" وتشكل أعداد هؤلاء الأطفال الأغلبية لدى المخيم، وهذا الأمر ينطبق على مخيمات عشوائية عديدة شمال إدلب.
يقول "محمود خميس" مدير المخيّم لـ "تلفزيون سوريا"، إنّ الفقر والبطالة والتهجير دفعت نسبة تتجاوز الـ 95% من أطفال المخيم للعمل بما يتوفر لهم أياً كان، إلا أنّ أكثرها قساوة جمع المواد البلاستيكية والمطاطيّة من مكبات النفايات وبيعها للمعامل، كما يعملون في قطاف الخضار خلال الموسم الزراعي الصيفي ولدى مهن وورش صناعية.
ويشير "خميس" إلى أنّ كثيراً من الأطفال يضطرون للعمل إلى جانب رب الأسرة بسبب تدني دخله اليومي والذي قد لا يتجاوز الـ 1000 ليرة سورية وهو ما لا يمكن أن يسد رمق العائلة حتى من الخبز فقط، دون باقي الحاجيات الأساسية من ماء وطعام وتدفئة خلال الشتاء.
علاوة على ما ذكره "خميس"، يوضح محمد حلاج مدير فريق منسقو الاستجابة لـ "تلفزيون سوريا" أنّ الظروف الاستثنائية التي ظهرت خلالها المخيمات العشوائية من حملة عسكرية ونزوح ضخم وأزمة إنسانية صعبة وغياب المساعدات الإنسانية المنّظمة، أدت إلى تحولها لتجمع ضخم للأطفال العاملين.
أرقام وإحصاءات
يشير "حلاج" إلى أن استحالة إحصاء الأطفال المتسوّلين أو ضبطها في أرقام، تعود بشكل بارز إلى الخصوصية الاجتماعية للمتسولين الذين يضطرون إلى التنقل بين قرى وبلدات ومدن بعيدة عن بلدتهم حتى لا يمكن التعرف إليهم. وبالتالي ما يسببه الأمر من حرج اجتماعي، ما يحول من القدرة على التتبع الإحصائي، إضافة إلى زيادة نسبة الفقر بشكل متواصل وسريع، والبطالة التي وصلت إلى 80%.
وحول عمالة الأطفال، قدر محدثنا أن نسبة الأطفال العاملين تقدّر بنحو 15% بشكل وسطي، إذ تبلغ أعداد الأطفال في منطقة شمال غربي سوريا ما دون سن الـ 15 عاماً، قرابة مليون و100 ألف نسمة، وما بين الـ 15 إلى 18 عاماً قرابة 180 ألف نسمة.
التسرب المدرسي في شمال غربي سوريا
لا يمكن فصل ظاهرة "التسرب المدرسي" التي بلغت نسباً مخيفة في محافظة إدلب وصلت إلى أكثر من 50% من إجمالي أعداد الطلاب، بحسب أرقام مديرية التربية والتعليم في إدلب؛ عن ظاهرتي العمالة أو حتى التسوّل اللتين تفشّتا بين الأطفال، على اعتبار أنّ الحالة الأولى سبب رئيس في الثانية والمدرسة تأتي بعد الأسرة مباشرةّ من حيث الأهمية الاجتماعيّة.
يكشف "عبد الله العبسي" مدير التجمع التربوي في منطقة إدلب لـ"تلفزيون سوريا" أنّ في مدارس محافظة إدلب يوجد قرابة 300 ألف طالب من أصل أكثر من 600 ألف، مبيناً أنّ جميع الطلبة الباقين مصيرهم العمل أو التسوّل خارج أسوار المدرسة.
وتحدث "العبسي" عن عجز كبير في القطاع التعليمي، كان مسبباً رئيسياً في التسرّب المدرسي نتيجة غياب الدعم عن هذا القطاع، فأكثر من 300 مدرسة من أصل 800 مدرسة بما يشمل الأرياف والمخيمات، هي غير مدعومة ويعمل كوادرها تطوعاً.
وتابع قائلاً "غياب الدعم أحدث خللاً في دوام الكوادر، إذ إنّ المديرية غير قادرة على محاسبتهم لعدم قدرتها على تأمين رواتب شهرية وبالتالي تفاقمت أزمة التسرب المدرسي في تلك المدارس"، لافتاً إلى أنّ ظروف الفقر والتهجير والبطالة والأسباب المعيشية جميعها مرتبطة ببعضها البعض.
وركّزت منظمة "اليونسيف" خلال الفترة الماضية، بحسب محدثنا "العبسي" على نظام التعليم التعويضي على حساب التعليم الرسمي، إلا أنه بحد وصفه لا يفي بالغرض ولا يمكن أن يكون بديلاً عن التعليم الرسمي الذي يعاني بشكل كبير هذا العام.