يروي الكاتب محمد السلوم على صفحته، حكاية واقعية جرت في الثمانينيات، ملخصها أن إحدى وحدات الجيش السوري دهمت مغارة بالقرب من بلدة كفرنبل جنوبي إدلب، وقتلت مجموعة من الشبّان كانوا مختبئين فيها، لهم صلة بتنظيم الإخوان المسلمين، أو ربما بتنظيم الطليعة المقاتلة المنشق عن الإخوان.
أحضر عناصرُ الجيش الجثث إلى كفرنبل ووضعوها في الساحة وطلبوا من الأهالي التعرّف عليها. وقفت امرأة أمام إحدى الجثث مطولاً، سألها أحد العناصر:
- بتعرفيه؟
قالت: لأ. الله يصبّر أمه!
تلك المرأة كانت أمه، وعندما سئلت عن سبب إنكارها ابنها، قالت: خسرت واحداً لا أريد أن أخسر الباقين.
العبرة من هذه الحكاية يمكن أن تَخفى على أي قارئ عربي، ولكنها لا تخفى على القارئ السوري، وهي أن نظام الأسد الفاشستي لا يكتفي، عادةً، بأن يقتل شخصاً معارضاً، أو يهجره، بل يتحوّل الأشخاص الذين يلوذون به إلى مشبوهين.
فإذا فرضنا أن اسم الشاب الذي أنكرت أمُّه معرفتها به "محمد خالد الحسون"؛ سرعان ما تلبس الشبهة الأمنية عائلة "الحسون" في بلدته، وتنداح في دوائر تبدأ بأشقائه الذين يُشحطون إلى فروع الأمن شحطاً، أو يُستدعون إليها استدعاءً، للتحقيق معهم، وسؤالهم عن شقيقهم الذي قُتل، عمره، طوله، وزنه، نمرة صباطه، هل يدخن، كم عدد السجائر التي يستهلكها يومياً، هل يبصبص على بنات الجيران، لماذا يبصبص، أو لا يبصبص، لماذا لا يبصبص، ماذا يشتغل، كم كان دخله، هل تأتيه مساعدات من خارج الأسرة، أو من خارج القطر، مَن هم أصدقاؤه، ما أسماء أفراد جماعته، هل كان عصبياً أو هادئاً، ذكياً أم طَشَنة..
وخلال ذلك يُذل أولئك الأشقاء المساكين ويهانون وتوجه الشتائم لأمهاتهم وأخواتهم وجَدَّاتهم المرحومات، بالقلم العريض.. وفي الأغلب لا تنتهي مشكلتهم بزيارة واحدة، أو اثنتين، أو خمس، بل توضع لهم برامج شهرية لمراجعة الفرع، فلربما استجدت لديهم معلومات يمكن أن تورط أناساً آخرين، وتؤذيهم، وتساعد المحققين على الإيقاع بمجموعة بشرية أخرى، وهكذا.
لن يقف الأمر عند هذه الدائرة الأسرية الصغيرة، بل إنها ستكبر حتى تشمل العائلة كلها، وإذا كان لآل الحسون أقارب في مناطق أخرى، لا بد أن ينالهم من الشبهة نصيب، وأما الذين يتعرضون للأذى من عائلات أخرى فيكون لهم صلات قرابة أو نسب مع الحساسين
ولن يقف الأمر عند هذه الدائرة الأسرية الصغيرة، بل إنها ستكبر حتى تشمل العائلة كلها، وإذا كان لآل الحسون أقارب في مناطق أخرى، لا بد أن ينالهم من الشبهة نصيب، وأما الذين يتعرضون للأذى من عائلات أخرى فيكون لهم صلات قرابة أو نسب مع الحساسين، خال، ابن عمة، ابن خالة، صهر، نسيب.. وكنية الحسون، لمن لا يعرف، مشتقة من اسم حسن، أو حسين، أو إحسان، أو حسني، ولذلك فهي شائعة، قد لا تخلو منها بلدة أو قرية، ولك أن تتصور رجلاً من قرية بريف جسر الشغور، مثلاً، اسمه محمد خالد الحسون، يقع في قبضة حاجز أمني، فلا بد، حينئذ، من إخضاعه لتحقيق طويل وعريض وحقير، وطريف في الوقت نفسه، ربما يصل إلى سؤاله: ولاه حيوان، إذا كان محمد خالد الحسون الأصلي قُتل، أنت مين؟
قد تكون فكرة الحواجز الأمنية موجودة في الكثير من دول العالم، ولكنها تستخدم لغرض محدد، كأنْ تراقب دوريةٌ مرورية الأوراقَ الثبوتية الخاصة بالسيارات، أو أن تكون جهة أمنية قد تلقت تحذيراً من عمل تخريبي سيقع في هذه المنطقة، وفي كل الأحوال فإن الحاجز الذي يُنصب يُزال فور انتهاء الغرض المحدد، وبأسرع ما يمكن.. ولكن كثرة الحواجز، وديمومتها، وحقارتها، وغباء معظم عناصرها، وطلبهم من ركاب السيارات أن يبرزوا الهوايا (وهم يقصدون الهويات).. شأن سوري بامتياز، مستمر منذ سنة 1963، إلى يومنا هذا، دونما انقطاع..
وبالنسبة لنظام حافظ الأسد، ابتدأت الحواجز، فعلياً، في أواخر سنة 1979، بعد عملية مدرسة المدفعية، وقد لا تصدقون أنني، محسوبكم، كُلفت عقب العملية المذكورة، برئاسة حاجز على طريق (حلب - المسلمية) بالتناوب مع آخرين، لمدة شهرين، وبعدها، ومن حسن الحظ طبعاً، أزيل الحاجز.
كان سبب إقامة الحاجز أن هذا الطريق يؤدي إلى مدرسة المشاة (التي كنت أمضي خدمتي العسكرية فيها)، فخشيتْ الجهات الأمنية أن تتعرض تلك المدرسة لعمل مشابه، ومن ثم قرّرت إدارة المدرسة تخصيص بضعة ضباط صف ومجموعة من العناصر للمناوبة على ذلك الحاجز. وكان ذلك الطريق، في الوقت نفسه، يؤدي إلى قرية إبراهيم اليوسف، وإنه لأمر تراجيكوميدي أن عدداً كبيراً من الركاب الذين كنا نطلب منهم إبراز (الهوايا) من عائلة اليوسف، وكان من الطبيعي ألا يمر بنا أحد من المطلوبين، فهم يعرفون بوجود الحاجز بالطبع.
وعلى ذكر إبراهيم اليوسف وعملية المدفعية، يجدر بي أن أوضح أنني معارض لها بالمطلق، وقد بقيت سنين طويلة وأنا أتخيل ضحاياها وهم يقتلون فيقشعر بدني، وأزداد كراهية بالقتل، والعنف، وحتى حكم الإعدام كنتُ وما أزال واحداً من الذين يطالبون بإلغائه من قانون سوريا المستقبل، ومن جهة أخرى أنا لا ألتقي فكرياً، ولا أتعاطف مع فكر الإخوان المسلمين، ولا مع فكر كافة التنظيمات الدينية، سواء أكانت إسلامية أو غير ذلك، سورية أو غير سورية، ولكن، لا يمكن لإنسان موضوعي أن يغض الطرف عن التنكيل الفظيع الذي تعرضوا له في سوريا، اعتباراً من أواخر سنة 1979.
ما تعرض له سجناء الفئات السياسية الأخرى كان يبدو جنحةً إذا ما قورن مع ما كان يمارس على المتهمين بالانتساب للإخوان
وقد قرأت لصديق من حزب العمل الشيوعي سُجن في تدمر حكايات عن التعذيب الذي يتعرض له المساجين هناك، بشكل عام، ولكنه استدرك قائلاً إن ما تعرض له سجناء الفئات السياسية الأخرى كان يبدو جنحةً إذا ما قورن مع ما كان يمارس على المتهمين بالانتساب للإخوان.. ومَن يقرأ الكتاب المهم جداً الذي أصدره محمد برو "ناج من المقصلة" يمكن أن يحصل على فكرة موسعة عن هذا، وفي هذا الكتاب نفسه وصف برو ما جرى في حلب أوائل الثمانينيات قائلاً إن المدينة كانت عبارة عن ساحة حرب وحشية.
ومما حدثني به أحد أقاربي، كان يسكن يومئذ في منطقة قريبة من الملعب البلدي القديم، أن جثة إبراهيم اليوسف بعدما أعدم، رُبطت بمؤخرة دبابة، وسُحلت، وكانوا العساكر يصيحون على الأهالي بمكبرات الصوت، ليخرجوا ويتفرجوا عليها، وكانوا يجولون بها في الحارات، ويتكرر السيناريو ذاته.