icon
التغطية الحية

"الحكي" حين يؤجل قتل المرأة

2022.07.28 | 00:08 دمشق

ليلة
+A
حجم الخط
-A

العنوان يحيلنا إلى أقدم نصّ ظل على قيد الحياة (ألف ليلة وليلة)، الأكثر تأثيراً في معظم الشعوب، والذي هو نتاجُ حضارات وشعوب متعددة. ألم يكن قائماً في أساسه على ملك يقتل زوجة كلّ يوم حتى أتت شهرزاد وقصّت عليه كل تلك القصص كي لا تموت؟

هذا السؤال الذي افتتحنا به مقالتنا هذه هو أحد محاور برنامج (ضمائر متصلة) الذي يعدّه ويقدمه الشاعر ياسر الأطرش على شاشة تلفزيون سوريا، في حلقته التي خصصها عن (العنف ضد المرأة في الدراما والسينما) والتي تزامنت مع قتل المرأة في عدة دول عربية؛ وبغداد اليوم ليست كبغداد في ألف ليلة وليلة، ورداءة الإنترنيت فيها قد منعت من الإجابة عن هذا التساؤل.

 ملك عظيم خانته زوجه مع خادمه أو عبده، فكان حكمه عليها بحكمين: فعلي ومعنوي. الأوّل صار يقتل كلّ فتاة عذراء يتزوجها، وبعد ليلة الزفاف، تطرد من الحياة، والسبب الثاني (المعنوي) تمثّل في سيطرة هاجس على الملك يقول: إن كلّ امرأة خؤون. فمن ناحية نفسية إن هذا الرجل يعاني من صدمة نفسية وهي جرح الذات، وهذه الأخيرة فقدت توازنها، فصارت تمارس العنف؛ لتخفيف الأذى عنها. فلم يكن في السابق تحليل نفسي يعيد توزان هذا الملك الجريح إلى ذاته المستقرة، فانبرت بنت الوزير شهرزاد لتنقذ بنات جنسها من الانقراض. ولم يكن لديها سلاح لمواجهة الملك سوى (الحكي) أو بمعنى أدق لغتها سلاحها وليس لسانها كما يشاع عن المرأة. فهنا شهرزاد تمثل قيّم عدة: معنوية، ونفسية، وثقافية.

  • الأولى: تتمثل في إنقاذ النساء من القتل، والعنف؛ واستعادة الهوية الأنثوية في المجتمع وخلق حالة من التوازن الاجتماعي لتستمر البشرية في العيش.
  • والثانية النفسية: ترويض الملك المتوحش وترميم جرحه الذاتي، وبناء كرامته التي هدرتها زوجته الخائنة.
  • أما الثالثة (الثقافية) النص هو نتاج ثقافات متعددة. إن الحالة الأولى المعنوية تحققت في نهاية الحكايات (سنوضحها لاحقاً).

إنَّ الملك السعيد بدأ علاجه بالسرد والحكي الأنثوي، فكان النص أنثوياً بامتياز، فيه سمات الأنوثة الكاملة، والساردة أنثى وهي المعالجة النفسية له، ونشرت روحها الأنثوية بسردها، فصار يحمل هويتها، بمعنى إن النص صار يلد نصوصاً أخرى، ويتكاثر كما تتكاثر البشرية بلا انقطاع، والذي ينثر البذور الرجل (الملك) المحفز على السرد، يغرسها في الأرض (شهرزاد) منتجة النص، فالذي يقرأ الحكايات لا يرى ختاماً لها؟ يجد قول "وأدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح" في ختام كلّ حكاية أو ليلة، إلا الأخيرة، وهي مرتبطة بالحالة الأولى الثقافية التي ذكرناها (وقلنا سنوضحها).

فولادة هذه النصوص الأنثوية داخل الحكايات تحمل أكثر من دالالة منها: لتأخير قتل، وتأجيل خروج الروح من الجسد، ودلالة أخرى، وهي فنية مرتبطة بالنص السردي (القصة داخل القصة) هو جذور أولى لمصطلح نقدي وضعت أسسه النظريات النقدية الحديثة، وهذا ما أشرت إليه عند مراجعتي وتقديمي لحكايات (ألف ليلة وليلة) النسخة غير المحذوفة التي صدرت عن دار "آشور بنيبال" ببغداد، وقلت إن (الميتاسرد) جذوره الأولى في هذا الحكايات، والغاية منه؛ لكسر تقليدية الكتابة الإبداعية ونسقيتها الشائعة، وهذه التقنية في الرواي هي لعقد الثقة بين المؤلف والقارئ/ القاص والمستمع. فشهرزاد كانت واعية بمزاج الملك، إذ كسرت رتابة السرد عبر الميتاسرد. فولادة النص داخل النص لا تقتصر دلالاته عند هذا الحدّ، بل روضت الوحش عند ممارستها للعبة المجاز وفكها لأزرار قميص اللغة لمدة ألف ليلة ويوم واحد، فماذا تعني هذه المدة؟

إنَّ المرأة في عصرنا هي شهزراد أخرى، فلماذا ظلت تعيش بانتظار قانون  يحميها ولم تساهم هي بوضع  القانون؟ ولماذا لم تفكر بترويض الوحش؟

يرى عبد الله الغذامي في كتابه (المرأة واللغة): "إن هذه المدة تعادل ثلاثة وثلاثين شهراً، وهي مدة الحمل والإرضاع، وأمضت شهرزاد بها في حضانة المتوحش ورعايته، فمنتحته الطمأنينة وكأن ما جرى شبيهاً بجلسات المحللين النفسيين المعاصرين. فشهرزاد أجلست زوجها قرابة ثلاثة سنوات تعالجه باللغة وتروضه بالسرد، وتنوع عليه الأقاويل إلى أن شُفي من دائه، وتمّ إنقاذ بنات المدينة من الموت. فهل حياتنا المعاصرة عالجت المرضى النفسيين باللغة؟ إذا عدنا إلى القيمة المعنوية نلحظ أن شهرزاد قد حررت المرأة من المقصلة التي تنتظرها، وعززت قيمتها الأنثوية عندما تناولت في متن الحكايات قصص الخيانة عند الرجال والنساء، فالخيانة ليست حكراً على جنس معين، ولعل الأهم ما توضحه في ليلة (الواحدة بعد الألف) عندما دخل الملك عليها وطلب منها أن تكمل حكاية معروف الذي كان إسكافياً وصار ملكاً، بهذا السرد يتدخل الراوي ليروي لنا ما جرى لشهرزاد بهذه المدة (الألف ليلة وليلة): "كانت شهرزاد في هذه المدة قد أنجبت من الملك ثلاثة ذكور، ولما فرغت من الحكاية قامت على قدمها وقبّلت الأرض بين يدي الملك وقالت له: يا ملك الزمان إنّي جاريتك ولي ألف ليلة وليلة وأنا أحدثك بحديث السابقين ومواعظ المتقدمين فهل في جنابك من طعماً حتى أتمنى عليك أمنية؟ فقال لها تمني يا شهرزاد. فقالت هاتوا أولادي. وهم ثلاثة ذكور وواحد منهم يمشي وواحد يحبي وواحد يرضع، فقالت يا ملك الزمان إن هؤلاء أولادك وقد تمنيت أن تعتقني من القتل إكراماً لهؤلاء الأطفال. وقال: يا شهرزراد والله أنّي قد عفوت عنك من قبل مجيء هؤلاء الأولاد؛ لكوني رأيتك عفيفة وتقية وحرة نقية".

النص السابق يشير إلى أن شهرزاد استعادت هويتها وتحولت من جارية/ هامش إلى أم/ مركز. وإن ولادة النص التي ابتكرتها يرادفها ولادة صبيان ذكور، بمعنى استمرارية الجنس البشري، واستعادة التوازن الاجتماعي، وطرد الواحش الرابض في جسد الملك، عبر جلسات السرد وكانت هذه المدة كافية لعلاج الجرح الذاتي وإبعاد فكرة المرأة الخؤونة من عقل الرجل، والمجتمع.

إنَّ المرأة في عصرنا هي شهزراد أخرى، فلماذا ظلت تعيش بانتظار قانون  يحميها ولم تساهم هي بوضع  القانون؟ لماذا لم تفكر بترويض الوحش؟ ولا أقصد رجل بعينه، إن حالات العنف ضد المرأة، أو ضد الرجل قد خلقت بشراً يرقد بداخلهم وحشٌ ويكون على أهبة الاستعداد في إشعال إي شرارة ليظهر عنفه وعنصريته، ويساهم في إنعاش الحروب واغتصاب المدن وتشويها.

إنَّ المرحلة التي تعيشها البشرية بالرغم من وجود قانون، وتشريع ديني، ليست كافية لقتل الشر بداخله وأظّن أن الأدب وسحر اللغة، يربيان الإنسان على الفضيلة والتسامح وحبّ الذات.