تحظى مهنة الحكواتي في بلاد الشام عامة ودمشق خاصة بشعبية كبيرة، واشتهرت بها مقاهي الشام القديمة، وخاصة مقهى النوفرة، إذ يلهب الجمهور حماساً ويشدهم إبهاراً، كل ذلك قبل أن يتحول إلى لقطات من مسلسلات أيام زمان.
منذ السنوات الأولى من عمر الإنسان، وحتى آخر أيام عمره، يشكل الاستماع بشوق ولهفة إلى الحكايات، جزءاً من حياته اليومية، وإن تغيرت طرق عرض الحكايات.
عرفت البشرية كثيرا من أشكال القص وسرد الحكايات، بعضها لم يعد له وجود، منها الحكواتي صاحب الطربوش، والذي يُعرف بأنه "تلفزيون أيام زمان".
الحكواتي.. تلفزيون أيام زمان
الحكواتي رجل ذو صوت قوي، وأسلوب درامي في القراءة، يجلس في مقهى شعبي، وسط رواد المقهى، يحمل كتاباً فيه قصص الأبطال الشعبيين، والحكايات الأسطورية، مثل قصة أبو زيد الهلالي، والزير سالم، وعنتر بن شداد، وألف ليلة وليلة، يقرأ منه بأسلوب مشوق، فيه صعود وهبوط في الصوت والنبرة، وفق أحداث الحكاية.
والحكواتي مهنة ويتقاضى أجراً من صاحب المقهى، لأن عمله جذب الزبائن، وجعلهم يبقون في المقهى لأطول مدة ممكنة، مدة يتخللها طلب الأراكيل، والمشروبات من شاي وقهوة، وأحياناً الحلويات.
مهنة الحكواتي تتطلب من دون شك مهارات ومواهب فنية مثل القدرة على الوصف والتلاعب بنبرة الصوت، والمشاركة في كتابة القصة عبر تحويلها إلى اللهجة العامية المحلية، ومهارات الإلقاء والخطابة.
ويجمع الحكواتي بين الممثل الدرامي والمخرج والخطيب والواعظ، وشيء من الكاتب، وكلامه فيه إيقاع، كأنه عزف على الكلمات، مثل هذا الاقتباس:
"عن الملك الظاهر، والعلم الباهر، والذيل الطاهر.. من قرأ العلم والدرس، الأصيل بالنعمة والغرس.."
يلجأ الجمهور إلى الحكواتي للاستمتاع والترفيه وملء الفراغ، خاصة في ليالي الشتاء الطويلة، وفي ليالي رمضان بين الإفطار والسحور، وهي قبل ذلك تلبية لحاجة الاستماع للقصص والحكايا التي تبدأ مع الإنسان منذ طفولته.
انفعالات الجمهور
الحكواتي الجيد هو الذي يستطيع التأثير بصوته وأسلوبه، وبالسيف أو الخنجر الذي يلوح به، في مشاعر الحاضرين، وكلهم ذكور، لدرجة تعلو فيها أصواتهم، وتحمر فيها وجناتهم، وربما تدفعهم للقيام بتصرفات عصبية، أو غاضبة، وربما هستيرية، تشبه إلى حد كبير ردود فعل جمهور كرة القدم في هذه الأيام. تتنقل بين التشجيع، والحماس، والترقب، والفرح، والاحتفال، والحزن، والغضب الذي يصل أحياناً إلى الشجار، والتكسير، والعنف..
وغالباً ما تدور حكاية الحكواتي حول بطل حقيقي أو أسطوري، يحظى على إعجاب وتقدير الجمهور كله، ولكن لا تخلو بعض الحكايات من تعدد الأبطال، الأمر الذي يؤدي لانقسام السامعين إلى فريقين متنافسين، وهو ما يزيد من إمكانيات الخلاف والشجار والتكسير.
ولأن هدف الحكواتي، وهدف صاحب المقهى، هو تشويق السامعين، وبث الحماس فيهم، دون أن يصل الأمر حد فلتان الانضباط، فإن الحكواتي يمكنه تجاوز فقرات وأحداث من الحكاية، أو تغيير أحداثها، لإرضاء الجمهور، ولتجنب الغضب، والحزن والشجار.
ولأن رد فعل السامعين فوري ومباشر، فإن الحكواتي يضطر أحياناً لترك الحكاية كلها، والانتقال إلى حكاية أخرى، إذا لم تعجب الحكاية الجمهور. وبالمقابل، يمكنه إعادة قراءة حكاية ما، مراراً وتكراراً، على مدار سنوات، طالما أن ذلك يعجب الجمهور.
التشويق
ولأجل زيادة التشويق، ولدفع السامعين للعودة للمقهى في اليوم التالي، لا بل في الأيام التالية، يقسم الحكواتي بعض القصص إلى حلقات، ويتوقف كل ليلة عند أحداث مشوقه من القصة، أو ما يسمى بالعقدة، هذا إذا لم يتلقَ أمراً من زعيم، أو بلطجي، أو من الجمهور الهائج، بالاستمرار في كشف أحداث القصة، وعدم تركهم يتحرقون شوقا لليوم التالي لمعرفة ما حل ببطلهم، في الحكاية.
ولا يتوانى الحكواتي عن تقمص دور الواعظ، ويستشهد بأبيات من الشعر، لذم الشخصيات والظواهر السلبية، وكل هذا يتطلب منه التمتع بجاذبية شخصية، أو كاريزما كما يقول السيد شادي الحلاق، حفيد ملاك مقهى النوفرة الذي اشتهر باختيار أفضل الحكواتية: "من يريد أن يمتهن هذا الكار عليه أن يحبه، وأن يمتلك كاريزما خاصة، ويكون قادرا على التنقل بين طبقات الصوت، لأن نبرة الأصوات تختلف، على سبيل المثال الملك له صوت مختلف عن صوت الفارس، وعن صوت الإنسان العادي"
ولا يبالي الحكواتي، ولا جمهوره باسم كاتب القصة، ولذلك يبدأ كلامه دائماً بعبارة: قال الراوي "يا سادة يا كرام". ولا يقول من هو الراوي، ولا يهتم السامعون أبداً بمن هو الراوي. الأمر الذي يعطي الحكواتي حرية تامة في الابتكار والزيادة والإنقاص وأخذ ما يشاء من قصص كل الشعوب، وتحويرها وتغيير أسماء الأشخاص والأماكن، لتتناسب مع رغبات ومعارف مستمعيه. المهم أن يكون فيها بطل، ينصر المظلومين، يتعرض لمغامرات ومؤامرات ومخاطر، تنتهي كلها بانتصار الخير على الشر، أي بانتصار البطل، وبعبارة "هون يا سادة أودعنا الكلام"
يقول شادي الحلاق بصراحة تامة: "قصة الملك الظاهر، الكذب فيها ظاهر، أما قصة عنتر بن شداد فالكذب فيها موجود لكن فيها شيء من الواقع، كان هذا الأسلوب من السرد مستخدماً لشد انتباه الجمهور، مثله مثل الحركات، والتلويح بالسيف".
تاريخ مهنة الحكواتي
وإذا كان من غير المؤكد معرفة تاريخ بداية وجود مهنة الحكواتي، فالبعض يعيدها إلى القرن التاسع عشر (200 عام)، وآخرون يعيدونها إلى تواريخ مغرقة في القدم، تصل إلى ألوف السنين، دون قدرة أحد على حسم هذا الخلاف وهذا الفرق الشاسع، فإن تاريخ تراجع مهنة الحكواتي ثم موتها، معروفان بدقة.
إنه القرن العشرون. فقبيل حلول هذا القرن، ظهر ما يسمى مسرح خيال الظل، ومسرح العرائس، وما عرف شعبياً في دمشق بكراكوز وعيواظ. وهي دمى تمثل أشخاصا (وأحياناً حيوانات) يحركها فنان، ويتلاعب بصوته ليمثل أدوار كل أشخاص الحكاية. فكان أكثر جذباً للكبار والصغار من الحكواتي الذي لا يملك من الأدوات إلا صوته.
وشكل ظهور السينما في سوريا عام 1908 وتطورها السريع، ضربة أقسى لمهنة الحكواتي، ففي السينما يرى الناس وجوه الأبطال، ولا يتخيلونهم فقط. تلتها ضربة قاسية أخرى هي اختراع وانتشار الراديو، الذي هو بمعنى ما، حكواتي موجود في البيت، ولا يتوقف عن الكلام.
وجاءت الضربة القاتلة والنهائية لمهنة الحكواتي بوصول التلفزيون إلى سوريا عام 1960 فمن سيذهب إلى المقهى ليستمع إلى قصص قديمة ومكررة، وفي بيته تلفزيون يريه قصصاً وحكايات يمثلها أناس كثيرون من لحم ودم.
ومن أغرب الطرائف، أن بعض المقاهي التي تخلت عن الحكواتي، وضعت تلفزيوناً لمن ليس لديه في بيته تلفزيون، في نفس المكان الذي كان يجلس فيه الحكواتي بكل هيبته ليخاطب الناس من مكان عال ويتحكم بخيالهم. طرفة تذكر بإحدى العبارات التي كان يقولها الحكواتي بعد موت كل شخصية من شخصيات قصصه: سبحان الدايم.
أغرب من ذلك أن التلفزيون الذي قضى نهائياً على مهنة الحكواتي، هو نفسه الذي حافظ على ذكرها، فهو الذي جسدها وعرّف الملايين بها، بكل تفاصيلها، عبر المسلسلات، وخاصة الرمضانية منها. فلا يكاد يخلو مسلسل من مسلسلات البيئة الشامية من مشاهد للحكواتي. وهذه المشاهد جميلة وجذابة إلى درجة أن بعض الأمسيات والخيم الرمضانية أعادت الحياة جزئياً لشخصية الحكواتي بطريقة فلكلورية، بفقرة تشبه فقرة تمثيل المبارزة بالسيف وفقرة العراضة.