لا تنفك الشعوب تحارب وتصارع حول أحقية سرديتها التاريخية، المعاصرة في أقل تقدير؛ لاسيما مع وجود سردية أخرى جرى "صنعها" وترويجها، بل وتبنيّها حسب موازين القوى المسيطرة في عالم تحكمه الكثير من المعايير المتناقضة.
ضمن هذا الإطار، كانت الأفلام الوثائقية بمثابة مراجعة تاريخية لما حدث مع ثقافات وشعوب، تغيرّت مسارات حياتها وتاريخها بسبب حرب أو تهجير أو إبادة جماعية.
هكذا، يروي الفلسطينيون حكايتهم عن سرقة وفقدان الوطن، والخسارة التي تجلّت بمفهوم "النكبة"، مقابل الرواية الصهيونية على ما يدّعون تسميته بـ "حرب الاستقلال" وتمجيد بطولات مصطنعة في تكريس العدالة التاريخية والإلهية.
هنا، يقدم المخرج ألون شوارتز Alon Schwarz عام 2022، فيلمه الوثائقي "طنطورة" Tantura، ليكشف حقيقة ما حدث خلال عام 1948، وتحديدا في مذبحة قرية الطنطورة الشهيرة؛ عن طريق شهادات جنود يعترفون تتاليا بالتستر على جرائم الحرب التي ارتكبوها. إذ دمر "الإسرائيليون" مئات البلدات والقرى الفلسطينية في عام 1948، وأصبح، وقتها، ما لا يقل عن 750 ألف فلسطيني لاجئين، بحيث أنه، وحتى اليوم، فإن ذكر مصطلح "النكبة" يعد من المحرمات في المجتمع الإسرائيلي.
يبدأ الفيلم بتسجيل صوتي لقرار الأمم المتحدة رقم 181 في نوفمبر 1947، الذي قسم فلسطين إلى دولتين وهو ما قبلته "إسرائيل" ورفضه العرب، اليهود 56% والعرب 43% و1% الخاص بالقدس "رعاية دولية". وهو ما كان مقدمة حرب 1948.
الشخصية المحورية في الفيلم هو المؤرخ (تيودور كاتس) الذي وضع أطروحة حول ما حدث في الطنطورة بعد أسابيع فقط من إعلان "ديفيد بن غوريون" قيام "دولة إسرائيل". أجرى كاتس مقابلات مع شهود، نصفهم فلسطينيون، ونصفهم يهود كانوا أعضاء في لواء ألكسندروني Alexandroni Brigade (نسمع تلك الشهادات على مدار الفيلم) ليستنتج، ونحن طبعا، تفاصيل المجزرة.
تضمنت الشهادات ذكر أبشع أنواع التنكيل والقتل والحرق بحق سكان القرية، حتى بعد استسلامها لعصابات الهاغانا: (أشخاص تم اصطفافهم وإطلاق النار عليهم، اغتصاب، أشخاص قُتلوا بقاذفات اللهب. سرقة ونهب، جثث ملقاة في مقبرة جماعية؛ تحولت فيما بعد إلى مرآب للسيارات السياحية). كانت الشهادات في الفيلم وصف لجرائم حرب وتطهير عرقي ممنهج.
نفى "جيش الدفاع الإسرائيلي" وجود أي حقيقة لهذه الفرضية، ترافقًا مع تراجع الجنود "أصحاب الشهادات" عما قالوه، ورفعهم دعوى قضائية ضد كاتس بتهمة التشهير، لينقلب "النظام الإسرائيلي" ضده. حورب كاتس بتهمة تشويه سمعة "الجنود الأبطال"، وتم تقديمه للمحاكمة؛ أصيب على إثرها بالشلل وبأكثر من جلطة دماغية.
لكن الفيلم لم ينته هنا، إذ يعود مخرج الفيلم ويجري مقابلات مع بعض الجنود الذين سبق وسجلوا شهاداتهم، لنرى هنا أقبح ما يمكن وصفه من تباهٍ وتفاخر وسخرية ليوميات المجزرة وقتها:
"كان هناك العديد من الضحايا العرب، وكانوا متناثرين مثل القمامة" يقول أحد الجنود، ويضحك آخر وهو يذكر اغتصاب زميل له لفتاة في السادسة عشرة من عمرها أمام ذويها ثم قتلهم جميعا، ولا يتذكر آخر عدد الذين قتلهم، ويذكر هو يقهقه: "البندقية كان فيها 250 رصاصة، لا أعرف كم قتلت".
في الشهادات المذكورة في الفيلم، وهي قليلة جدا، سوف يجانب المخرج الموضوعية بشكل صارخ، ويبتعد عن التركيز على أحداث الطنطورة، إذ يمكن للمشاهد أن يخرج بنتيجة أنه كان هناك بالتأكيد جندي أو بضعة جنود آخرين، شاركوا في أعمال غير أخلاقية بعد الاستيلاء على القرية، مبررين ذلك على أنه رد مباشر على عمليات التشويه العربية للجنود اليهود في كتيبتهم. وهو ما يضع الفيلم "ومخرجه" في صفوف المشككين بأبحاث كاتس، فليس من الواضح ما إذا كانت مذبحة قد حدثت أم لا؟
يتضمن الفيلم، الكثير من الشهادات لأكاديميين ومؤرخين معروفين لمتابعي المشهد "الإسرائيلي"، إذ يصف المؤرخ "آدم راز" في الفيلم كيف أن "الحمض النووي للقصة الصهيونية" هو أن الإسرائيليين كانوا الجيش الأكثر أخلاقية على وجه الأرض. وهو ما ذكره "إيلان بابي" من أنه من الصعب جدًا الاعتراف بارتكاب جرائم حرب. لأن المشروع الصهيوني يعاني من مشكلة أخلاقية في الأساس.
يوضح الفيلم طرد الفلسطينيين من وطنهم عام 1948، بمساعدة وسائل الإعلام العالمية. ويوثق المخرج كيف استعانت "إسرائيل" بطواقم تصوير من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك طاقم من شركة "مترو غولدن ماير" MGM، لتقديم نسخة مزيفة لما كان يحدث. كما ينوّه الفيلم لتكليف "بن غوريون" إجراء دراسة تقول إنه لم يكن هناك عرب في فلسطين، وأنهم دخلوا القرى ووجدوها خالية بعد أن تركها الأهالي بمحض إرادتهم.
فيلم طنطورة، هو مثال لآليات الحفاظ على "أساطير" تم اختراعها وترسيخها في وعي "الإسرائيليين" وشكل من أشكال قمع المعرفة عن سلوك "الأبطال" الذي انتصروا على الجميع بأخلاقياتهم العليا.
يبقى التنويه، إلى أن مخرج الفيلم لا يدين ما حدث تماما. إذ يذكر في لقاء معه أنه ليس ضد تلك المجزرة، بقدر ما يريد توضيح طبيعة المجتمع "الإسرائيلي" المليء بالتناقضات، وأن المجتمع ليس بالضرورة أن يكون "طاهرا"، فالكثير من "الأخطاء" قد تحدث.
يحاول الفيلم تكريس خطاب مفاده أن الاعتراف ببعض الأخطاء والمجازر التي حدثت، لا يجب أن تسبب الخوف لدى "الإسرائيليين". إن الاعتراف بالظلم لا يتعارض مع "الحق" في الوجود في "أرض إسرائيل"، فقد تم تأسيس هذا الحق قبل آلاف السنين من عام 1948.
ورغم أن هدف الفيلم هو هذه المقولة؛ إلا أن المخرج فشل في تقديم حججا مقنعة لهذه المقولة. والأهم من ذلك كله هو السؤال الآني، تزامنا ما يحدث في غزة اليوم: "ما المغزى من الفيلم إذا لم يكن له تأثير على الواقع الحالي للفلسطينيين.
وفي فيلم "السنوات الـ 54 الأولى: دليل مختصر للاحتلال العسكري" The First 54 Years: An Abbreviated Manual for Military Occupation، لـ آفي مغربي Avi Mograbi 2021، شهادات جمعت من قبل منظمة (كسر الصمت)، وهي منظمة من الجنود الاحتياط الذين خدموا في جيش الدفاع "الإسرائيلي"، وهم في الغالب جنود من ذوي الرتب المنخفضة إلى المتوسطة المكلفين بتنفيذ الأوامر، ويصفون كيف تم تدريبهم، والأوامر التي تلقوها، وأنواع الأشياء التي قاموا بها.
وبخلاف فيلم شوارتز، يركز الفيلم هنا على شهادة الجنود "الإسرائيليين" الذين خدموا في غزة والضفة الغربية. واستنادا إلى شهاداتهم، كمجندين في الجيش، في الأراضي المحتلة في غزة والضفة الغربية في أوقات مختلفة على مدى السنوات الـ 54 الماضية، يبحث الفيلم في الأساليب الكامنة وراء هذا الاحتلال، كما نفذته إسرائيل منذ عام 1967. يغطي الفيلم الفترة من 1967 إلى 1986؛ المرحلة اللاحقة من "فقدان السيطرة" (1987-2000)؛ ومن ثم "الفقدان التام للسيطرة" (من عام 2000 حتى الآن).
يتحدث الفيلم عن مبادئ الاحتلال، بدءًا من تكتيك إقامة المستوطنات في الأراضي المحتلة. ثم اتباع مبادئ مثل الترويج لـ “التطبيع"، تنفيذ تكتيكات فرق تسد مثل العقاب الجماعي، والاعتقالات، والترويج للوشاية.
يبين المخرج كيف ضاع، مع توالي عقود من الزمن، أي إحساس بالسيطرة الحقيقية على "الشعب المحتل"، جنبا إلى جنب مع انتشار التعسف المطلق في تصرفات الجيش اليومية.
ومنذ الانتفاضة الأولى 1987، تم إدخال أساليب عقابية بشكل متزايد: كان يتم ضرب الفلسطينيين "كما يتذكر أحد الجنود السابقين"، بسبب مخالفات تافهة مثل انتهاء صلاحية التأمين على السيارة. تفتيش المنازل، المداهمة فقط بهدف التعطيل.
أدت تلك الأساليب إلى تغذية التوترات المتصاعدة، والتي تتحول إلى حلقة مفرغة من الأعمال الانتقامية التي لا يمكن حلها، والتي تتفاقم بسبب العمليات الفلسطينية، وسلوك المستوطنين الإسرائيليين الذين يرفض الجيش منع أعمال العنف الخاصة بهم.
إن الخطوات التي تتخذها "إسرائيل" ستكون مألوفة: حظر عودة الفلسطينيين الذين فروا من المناطق خلال حرب عام 1967، وبناء المستوطنات على الأراضي المصادرة وقمم التلال، وقمع أي مقاومة، وحظر التجول. وهدم المنازل، واقتحامات المنازل العشوائية والاعتقالات، والضرب والاحتجاز، وحواجز التفتيش وغيرها.
يقول المخرج: (تأتي لحظة في حرب من هذا النوع، عندما يفقد الطرفان الأمل في هزيمة الآخر. سيتم اللجوء إلى وسائل غرضها الوحيد هو التسبب في الألم وإراقة الدماء).
فيلم "دليل مختصر للاحتلال العسكري" يكشف عن مشاعر الجنود السابقين حول أفعالهم، إذ يرون أنفسهم في وضع استبدادي متطرف. لاسيما مع حجم الأنشطة وآثارها المدمرة كتطبيق لقواعد الاحتلال العسكري.
ومع ذلك، فإن العبء الأخلاقي غير مسموح التصريح والجهر به، ففي نهاية الأمر، أُسست الدولة على وهم الخطاب الأخلاقي.