يمكن الحديث عن الحرية في مستويات متعدّدة، كالحديث عن الحريّة الاقتصادية التي ارتبط اسمها بحريّة رأس المال، أو عن الحرية السياسيّة التي يعبّرُ عنها بالتعدديّة والديمقراطيّة، إلا أن كلّ حديث عن الحريّة لابد وأن يبدأ من الحريّة الفرديّة للإنسان، التي تتضمّن حريّة إرادته.
لعب المفكرون والفلاسفة الأوروبيون في القرنين السابع عشر والثامن عشر دوراً بارزاً في إثارة قضيّة الحريّة، ولعل المساجلة التاريخيّة بين الفيلسوفين "جون لوك" و"هوبز" حول طبيعة الإنسان، كانت إحدى أهم تلك الممارسات الفكريّة المساهمة في هذا المجال، إذ اتفق الفيلسوفان، بداية، أن الحريّة حق طبيعي للإنسان، إلا أن "لوك" انتصر لطبيعة إنسانيّة خيّرة، يتصف بها المواطنون في الدولة الواحدة، لذلك رأى أن يمنح المواطنون جزءا -فقط- من حريتهم للحاكم.
في حين رأى هوبز أن الإنسان بطبيعته: ذئب لأخيه الإنسان، وأنّ إقامة حكومة مدنيّة تقتضي أن يتنازل المواطنون عن حريتهم كاملة للحاكم.
وبقي الكلام مستمرّا حول ما إذا كان الأنسب أن يمنح المواطن تفويضاً كاملا للسلطة، أم تفويضاً جزئيّاً، ذلك أنّ ما يميز نظام حكم عن نظام آخر هو الرؤية الضمنيّة لطبيعة المواطن الفرد، وعلى تلك الرؤية يبني المشرّع القوانين المناسبة، والمراعية للعقد الاجتماعي.
نظام الأب القائد يقوم على ذلك أيضا، فإن كان الشعب متخلّفا، أو(ذئبيّاً)، غير قادر على قيادة نفسه، فإنّ العقد الاجتماعي يراعي أن يكون الدور الرئيسي لزعيم متنوّر، قائد للدولة، ثم تصبح الدولة بأجهزتها امتيازاً بيد القيادة الحكيمة، من أجل النهوض بالبلاد من تخلفها، والبلوغِ بها إلى مصافّ الدول المتقدمة، وهذه العبارات يذكرها السوريون الذين تجاوزوا سن الثلاثين، كحد أدنى، بكل تأكيد.
لكن ورغم أن ذلك التصوّر السابق قد يبدو في مظهره واقعيّاً، وخيّراً، إلا أن تحدّياً ما سيبقى متمثلاً في أنّ مصلحة الشعب مختلفة من حيث الاتجاه عن مصلحة القيادة، ففي حين لا يمكن الشك في أن كل الشعوب ترغب، بالفعل، بالوصول إلى مرحلة حضاريّة محترمة، يعيش أفراد الشعب خلالها في كرامة وحريّة، فإن المصلحة ذاتها لا يمكن ضمان توفرها، كهدف أكيد، بالنسبة إلى القيادة المتفرّدة بالسلطة، ذلك أن نمو وعي الشعوب، وبلوغها مرحلة استحقاق حضاري لنيل الحريّة، سيؤدي بالضرورة إلى فقد القيادة الحكيمة لامتيازاتها!
لذلك، فقد تبدأ تلك القيادة، منذ لحظة وصولها إلى السلطة، تحفر خندقا بينها وبين المواطنين، عبر مفردات نظريّة معرفيّة مهمّتها تلقين المواطنين خطابا سلطويّا متكاملا، ترعاه الوزارات المختصة، وتوظف جهودها لرعايته عبر التربية والثقافة والإعلام.
كأنْ لا تفوّت تلك الأجهزة فرصة إلا واستثمرتها في تكريس صورة الأب القائد خلال كل وجبة ثقافيّة كانت أو ترفيهيّة، وسواء أكانت تلك الوجبة مقدّمة للصغار أو للكبار.. بدءا من الحكمة التي يتوصّل إليها السوري عقب كل ازدحامٍ فوضوي: (نحن شعب ما بنمشي إلا بالكرباج)، وانتهاءً بأفلام الكرتون التي تُعرضُ على شاشة التلفزيون الرسمي.
كلنا بات يعرف أن كرة القدم هي لعبة جماعيّة، تعتمد على مدى تعاون أعضاء الفريق الكروي، لكنّنا كنّا نتابع أفلام كرتون تدور حول الكابتن الذي بوجوده فقط يفوز الفريق، وبغيابه يخسر الفريق المباراة.. إلخ، وكلنا كان يتابع مسلسلات تلفزيونيّة سواء أكانت واقعية أو فانتازيا تاريخيّة، تؤكّد على أن القوّة هي من تمنح القائد منزلته، وحكمته، سواء أكانت الشخصيّة القياديّة شعبيّة كـ (أبي شهاب) في باب الحارة، أو كانت تصوّرُ قائدا تاريخيّا معروفاً، فإنّها مهمّتها جميعاً ترسيخ نمطاً فكريّا يشبه التالي: (أبا شهاب، أو ينتهي المسلسل)، لترسيخ صورة ذلك القائد الذي به تتم الحلقات، وبموته ينتهي المسلسل!
في الحقيقة إنّ مهمّة أخرى يمكن أن يؤدّيها هذا النمط الثقافي، وهي أن تعتاد الأذهان على الإذعان للقوة، فمن عضلات البطل وشواربه يولدُ الحق، دون الانتباه إلى عدم توفر ارتباط منطقي بين القوة وبين الحكمة إذ إن (القوّة طاقة فيزيويّة، ولا أرى أي أدب يمكن أن ينشأ عن معلولاتها) كما يقول جان جاك روسو في عقده الاجتماعي.
إنّ التمييز بين ثقافة السلطة وبين ثقافة الحريّة أمر غاية في الأهميّة أثناء متابعة ما يصدر عن النظام السوري من مواد ثقافيّة أو إعلاميّة، خاصّة تلك التي تذهب إلى أن الشعب السوري شعب ذئبيّ
في مرحلة لاحقة من العلاقة المنطوية على أنظمة مستبدة، وشعوب مقهورة، ستظهر المحطّات الفضائيّة لتلعبَ دورا مهمّا في تعدّد مصادر المعرفة، وسيلعب الإنترنت، فيما بعد، دوراً تالياً في تنوع تلك المصادر، ليكتشف السوريون فارقا هائلا بين طريقة تفكير الابن وبين طريقة تفكير جدّه في البيت الواحد، فهل كان ذلك مؤامرة!
بشار الأسد، قائد (مسيرة التطوير والتحديث)، والزعيم الذي يتنطع مثقفوه بأنه قائد (ثورة المعلوماتيّة) في سوريا، يعتبر تعدد مصادر المعرفة مؤامرة، ففي أثناء خطابه في جامع العثمان بدمشق في شهر 12 من عام 2020، كان قد شنّ هجوما كبيرا على الليبراليّة، حتّى كاد أن يبدو وكأنه يدافع عن الرموز، وعن الكبير، ومن كلامه في ذم الليبرالية: (يصبح الكبير كالصغير، والطالب كالمعلم، والأبناء يحلون محل الوالدين.. يأخذون دورهم وتلغى الحدود بينهم..) فهل كان بالفعل رجل إصلاح ديني واجتماعي، أم أنّه كان يدافع عن شيء آخر؟
ذلك إن كان محقّا في بعض مقالته، فالحريّة تطرح منظومة علاقات قائمة على المساواة التي تكفلها القوانين، وترعاها أخلاق مبعثها المحبّة والاحترام، لا الخوف والتبعيّة، أمّا (السيد الرئيس) فقد كان يدافع عن تصوّرٍ ثقافوي لجملة علاقات سلطويّة تنتهي إلى مقامه كرئيس، ذلك أنه هو رمز لكل الرموز، وكبير لكل كبير، ومعلّم لكل معلم.
إنّ التمييز بين ثقافة السلطة وبين ثقافة الحريّة أمر غاية في الأهميّة أثناء متابعة ما يصدر عن النظام السوري من مواد ثقافيّة أو إعلاميّة، خاصّة تلك التي تذهب إلى أن الشعب السوري شعب ذئبيّ، مثل جرائم القتل التي يسوّق لها على أنها من طبيعة الشعب السوري، وسنذكر جريمتين اثنتين على سبيل المثال.
إحداهما: ما انتشر مؤخّرا على وسائل التواصل الجماعي حول جريمة قتل آيات الرفاعي، التي لقيت مصرعها -بحسب الأخبار الواردة- على يد زوجها ووالديه، وظهر (مرتكبو الجريمة) وهم يدلون باعترافاتهم، بكل صراحة ووضوح!
الجريمة الثانية: تم تسجيلها في منطقة الغزلانيّة بريف دمشق، وبحسب الرواية فإنّ امرأة أرملة لديها ولد وبنت، وإن الولد -وهو مراهق لم يتجاوز الخامسة عشرة- حاول اغتصاب أخته، ولمّا عجز عن ذلك طعنها بسكين، ثم ذبحها، وصب الوقود عليها وأحرقها. إلخ
بداية لا يمكن نفي احتمال وقوع مثل تلك الأحداث المأساويّة، ولكن لا يمكن نفي أنها أحداث تخدم في سياقها خطاب السلطة!
فالحادثان معلّقان على تعاطف حضاري مسبق مع (المؤنّث/ الضعيف) في مقابلٍ مع طرف (ذكوري/ ذئبوي)، ومن خلال المقدمتين الأوليتين للقضيّة فإن الحكم نمطيٌّ ومتوقع مؤدّاه: إنّ الشعب السوري لا يُحكم إلا بسلطة مستبدّة!
كذلك لا ننسى أن النظام ذاته، بأجهزته الأمنية ذاتها، كان قد نسب للطفل حمزة الخطيب تهمة محاولة اغتصاب زوجات ضبّاطه!
إن تصوير الشعب السوري بمظهر المتوحش يصب في مصلحة السلطة في نهاية المطاف، ونحن، السوريين، ما نزال نعاني من تحالف مصلحي بين النظام وبين تنظيمات إرهابيّة شوّهت سمعتنا كشعب حضاري، وأسهمت في منع الانتقال السياسي إلى الديمقراطيّة، كما صرّح السفير الأميركي روبرت فورد منذ بداية نشوء تلك التنظيمات..