يولد الإنسان حراً، في صيحته الأولى يعلن وجوده، ولكن أيضاً تمرده. تتصرف الطفلة بكامل حريتها، تحطم اللعبة، تأكل بطريقة غير واعية، تتحدث بألفاظ غير منسجمة، وتعبر عما تشاء بالطريقة التي تراها مناسبة. يبدأ تشكل الوعي لدى الطفل مستعيناً بمحيطه، البيئة بما هي سريره، غرفته ومنزله، وتلك الأماكن التي يزورها بإرادة أهله، ومن ثم من خلال البشر الذين يعيشون في تلك البيئة، وفي مقدمتهم أمه ثم أبوه. في كل مرحلة يتشكل الوعي فيها لديه تتشكل معه محددات معينة تهدف لحمايته، تختلط تلك الحماية في عدة مفاهيم أهمها "الخطر، العيب، الحرام". الخطر يتجلى فيما تقوم به الطفلة دون وعي وقد يؤدي إلى إيذائها، مثل رغبتها في لمس النار أو اقترابها من مكان مرتفع، أما العيب فهو يتعلق بما تمليه العادة والتقليد والعرف، ويتعلق الحرام بما يمليه الدين من محرمات وموبقات. العيب والحرام هما ما اعتاد الوالدان على التزامهما ومن المتوقع من الطفل أن يلتزمهما. هل سيتعلم الطفل أي شيء في الحياة لولا والداه. هذا أمر مستبعد، لذلك عليهما أن يعلماه. يصبغان عليه ما يعتقدانه وما يؤمنان به وما يألفانه، ولا يمكن له في تلك المرحلة أن يختار. في مراحل لاحقة ومع تقدم أكثر في مستوى التحصيل والوعي يمكن رصد تدخل أكبر في التربية والإرشاد. يبدأ المجتمع، ومن ثم المدرسة. تتعلم الطفلة أشياء كثيرة وكثيرة، تتعلم أكثر ما تتعلم أن تضع محددات أكثر للعيب والحرام. يختلط الخطر في هذه المرحلة مع هذين المفهومين. في إحدى العادات السورية مثلا التدخين أمر معيب في حضرة الوالد أو الوالدة، وفي هذه الحالة هو مضر بالصحة. أيضاً الخروج مع فتاة خطير، لأن الزنا مصيره جهنم. الفتاة إن خرجت فالأمر لا يستحق الانتظار حتى جهنم. يمكن التصرف مع الأمر بشكل مباشر وسريع. القتل مثلا على سبيل الشرف.
خروجه على النظام السياسي لم يكن لكون هذا النظام مثلا مستبداً، ليس لديه من المحتمل مشكلة مع الاستبداد، بل مع العدالة، لو كان المستبد عادلاً، والعدل له معان كثيرة في حالتنا هذه، لو كان عادلا لما خرج
يكبر الشخص منا وفي بنيته الفكرية مئات المحددات لتعامله مع نفسه ومع الآخر ومع المجتمع. تصبح تلك المحددات جزءاً لا يتجزأ من شخصيته وتركيباً لا يمكن تفكيكه في سلوكياته. يجنح البعض منا للمغامرة. يقرر أن ينال بعداً أكبر لتحقيق ذاته، للتعرف عليها -تلك المختبئة خلف مئات المحددات - بشكل أقرب. منا من ينتفض ويركض في الشارع مستقبلا الرصاص منادياً بالعنوان العريض "حرية". يبحث عن ذات تمنعه عنها السياسة والسلطة، يحاول بالدرجة الأولى استرداد القيمة، قيمته أعني، بعد أن تكاد تكون قد انعدمت. فجأة يرى نفسه في تيار يهدر من الراغبات والراغبين في الحصول على قيمتهم، من الباحثات والباحثين عن ذواتهم. ينادون أيضاً بالعنوان العريض "حرية". يبحثن ويبحثون أيضاً عن ذوات تمنعهم عنها السياسة والسلطة. لكن لحظة، تلك الذوات التي يبحثون عنها تختلف عن ذاته. ما زال هو يملك محددات كثيرة، خروجه على النظام السياسي لم يكن لكون هذا النظام مثلا مستبداً، ليس لديه من المحتمل مشكلة مع الاستبداد، بل مع العدالة، لو كان المستبد عادلاً، والعدل له معان كثيرة في حالتنا هذه، لو كان عادلا لما خرج. هؤلاء بعض منهم مشكلته مع الاستبداد. هو حطم محددات صنعها النظام، أما هؤلاء يسعون لتحطيم محددات صنعها المجتمع. الآخرون هناك مصيبتهم أشد وطئاً، يسعون لتحطيم محددات صنعها الدين. لا لا يمكن ذلك، هناك "حدود يجب أن يتوقف عندها الأمر".
لن يقف في صف الجلاد طبعا، لكنه سيكون جلاداً آخر يدافع عن قناعاته، إيمانه، وبشكل أكثر صراحة محدداته. المبدأ في ذلك يقول: لا يمكنني أن أغوص أكثر للقاء ذاتي، إذاً لا يحق لك ذلك.
البعض يرغب في سبعين حورية هناك، في الجنة. يرغب في قدرة على ممارسة ألف باء، ولكن لا يجرؤ هنا على ملامسة فتاة. يفجر نفسه لهذا الهدف. يحارب نفسه هنا على الأرض موغلاً في إيذائها حتى القتل من أجل أن يفعل في الآخرة ما تمنعه محدداته من فعله على الأرض. لا يهدف هذا النص لاختصار الأمر في هذه الرؤية الضيقة بقدر ما يضعه مثالا للتمعن.
الحرية بمفهومها قدرة، هي إحدى القدرتين، أن تكون قادراً على تحطيم كل المحددات. هذه الأولى. أما الثانية فهي قدرتك على أن تتفهم قدرة الآخرين على تحطيم محددات لا ترغب أنت في تحطيمها. تحطيم المحددات هي رحلة الحرية، ورحلة الحرية غايتها الوصول للتعرف على ذاتك أكثر. البعض يرى ذاته في مستوى معين بعد أن يحطم محددات هنا وهناك. الآخر يسعى للبحث أكثر، يسعى للتحطيم أكثر، يسعى للحرية أكثر. المجتمع الحر ليس ما ترغب به، بل ما يمكنك أن تعيشه وتحتمله رغم اختلاف المحددات المحطمة لأعضائه. هل يعني أن يكون مجتمعا منفلتاً، أم مجتمعا حراً تصونه شرائع مسبقة مثل وصايا الأجداد أو إملاءات الدين. هو لا ذاك ولا ذاك. هو أن يأتي كل هؤلاء المناضلات والمناضلين لأجل الحرية، الرافضات والرافضون إعلان الحرب على أحاسيسهم، أفكارهم، تصوراتهم، أجسادهم. أن يأتوا جميعاً ويتفقوا على محددات واحدة تراعي المفهوم الأول "الخطر". يحق لكل عضو في هذا المجتمع أن يحطم ما شاء من محددات لا يقتنع بها على أن لا يضر مادياً بالآخر. يحق لكل عضو في المجتمع أن يقف على مستوى معين من المحددات، يحق لكل عضو أن يضع لنفسه محددات أكثر حتى مما وضعها الدين أو المجتمع، يضعها لكن لنفسه، ولا يجبر الآخرين عليها. يحق لكل عضو أن يكون حراً بقدر ما يشاء، على أن لا يمنع الراغبين بمستوى أعلى أو أدنى من الحرية. يحق لكل عضو أن يجد ذاته على أن لا يمنع الآخرين من الاستمرار في الرحيل لذواتهم أو يجبرهم على أن يقتنعوا أو يمتثلوا بأن ذواتهم تطابق ذاته أو يجب عليها أن تفعل. لا يحق له ذلك مهما كان لديه من ذرائع أرضية أو سماوية، بمعنى أصح لا يحق له أن يجعل من عيبه وحرامه عيباً وحراماً على الآخرين.
الحرية فعلا لا تحتاجك أن تقاتل، بل تحتاجك أن تفهم، أن تنزل سلاحك الذي سلموك إياه صغيرا لتناضل ضد نفسك، أن تتعرف بهدوء عليك، ليس أكثر
يناضل الإنسان في كثير من حالاته ضد نفسه، ضد ذاته، ضد أفكاره أو حتى جسده مناصراً محددات صنعها المجتمع من حوله. ينهك نفسه في حرب ضروس للتنكر من ذاته، في هذه الحرب فقط، كلما استسلم الإنسان أكثر اقترب من النصر أكثر. النصر هنا أن تتعرف على نفسك دون محددات وضعها غيرك، أن تتعرف على نفسك بحرية، أن تتعرف على نفسك دون خوف. الحرية فعلا لا تحتاجك أن تقاتل، بل تحتاجك أن تفهم، أن تنزل سلاحك الذي سلموك إياه صغيرا لتناضل ضد نفسك، أن تتعرف بهدوء عليك، ليس أكثر.