كتب الرئيس الأميركي "ودرو ويلسون" بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى "1919" (لا أتردد في القول إن الحرب التي نخوض غمارها، والتي تحمل كل أشكال الرعب، لا يمكن أن تقارن بالحرب التي قد نواجهها في المرة القادمة)، وواقع الأمر أن حصيلة الحروب في القرن العشرين، قاربت مئةً وستين مليوناً، منهم ما يقارب المئة مليون في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
مرةً إثر أخرى تشتعل الحروب هنا وهناك، وربما أمكننا القول إن الحروب لم تتوقف أصلاً، إنما تأخذ أشكالاً مختلفةً حسب أهدافها أو دوافعها، لكننا اليوم وعلى مدى عشر سنوات خلت، نشهد الحرب إثر الحرب، تدمر مدناً وشعوباً وتهجر الملايين وتقتل ملايين أخرى، دون أن يعني هذا شيئاً، وقد اعتاد العالم سماع أخبار القصف والمجازر اليومية، وبات مقتل المئات أو العشرات خبراً مألوفاً، لا يستدعي غير شجبٍ وإدانةٍ وقلقٍ هنا واستنكارٍ هناك، وسيلاً متبدلاً من التغطيات الإعلامية.
عشر سنوات دمرت خلالها بلادٌ بكاملها مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا، وها هي الحرب الروسية على أوكرانيا تكاد تشعل فتيل حربٍ عالميةٍ ثالثة
هل نشهد تهيئةً لرسم خرائط جديدة، لعالم كارثي نلمح ولادته، عالم لا يكترث بالإنسان، ولا تعني له الملايين المقتولة أو المغيبة في المعتقلات أو المهجرة في مراكز اللجوء أي شيء، تلك المراكز التي لم تعد تستوعب مزيدا. عشر سنوات دمرت خلالها بلادٌ بكاملها مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا، وها هي الحرب الروسية على أوكرانيا تكاد تشعل فتيل حربٍ عالميةٍ ثالثة، وتهدد باستخدام الترسانات النووية، التي من شأنها أن تدمر الكوكب عدة مرات، إن هي انفلتت من عقالها.
أمام هذا التهديد الكوكبي الذي انطلق مثل تسونامي دموي، فعبث باقتصادات محلية وعالمية، وأنذر بمجاعات وآفات سيكون من العسير التماثل منها في زمنٍ منظور، سيشهد العالم وعلى مدى سنوات، حالةً من القلق وفقد الاستقرار، لا يمكن التنبؤ بمآلاته وعلى أي صورة كارثيةٍ سيستقر.
في كتابه "سيكولوجية العنف البشري" يذكر الكاتب البريطاني "كولن ويلسون" (أن أسوأ أنواع الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياء، بل يرتكبها المتحضرون الأذكياء، باتخاذهم قرارات يوفرون لها المبررات والدوافع الكافية)، نعم ربما يكون من أخطر أوجه الحروب التي نعيشها اليوم أنها حروب تدار بخبرات عالمية عالية القدرة والتعقيد، جمعت إلى تلك النوازع العنفية التي يتمثلها المتحاربون، جيشاً كبيراً من الأدوات والوسائل التكنولوجية التي تصل بأسيادها إلى درجة تقترب من السيطرة الكاملة.
هذه الحروب التي تدور اليوم في بلادٍ متعددة بآنٍ واحدٍ، تفقد حرباً بعينها "كالحرب في سوريا" أهميتها وتدفع بالتعاطف الإنساني إلى حدوده الدنيا وربما إلى التلاشي، فليس بمستطاع العالم الاهتمام بمأساة شعب بعينه طالما أنَّ هذه المأساة تتكرر في الوقت ذاته وبشكلٍ يومي، في جغرافيات متعددة، بحيث تصبح أنباء الحروب حدثاً عادياً مألوفاً، لا يحرك في الناس إلا قدراً محدوداً من الغضب أو الرفض أو الانفعال، بل وتصبح تلك الأزمات سلعةً للتسويات المطروحة وربما الضرورية في بعض الأحيان، لضبط موازين القوى أو للمساومة بين المتحاربين، أو لإعادة تقسيم الحصص بين اللاعبين الكبار.
وبالقدر الذي أتاحته التقانات الحديثة وثورة الاتصالات، من فرص وجسور لعبور الثقافات وعيش التنوع، والاقتراب من الشفافية في الحياة العامة، بالقدر ذاته وربما بقدرٍ أوسع عززت استطالات أذرع أرباب الفساد وصانعي الحروب، وساهمت في انتشار تأثيراتها العابرة للقارات، بل وجعلت الجميع شريكاً أو متأثراً بها، وها هي اليوم تدفع كثيراً من الدول الصناعية الكبرى، التي انشغلت لعقود بالتنمية والتطوير والتصنيع، تعود من جديد لترصد مليارات الدولارات لتعزيز آلتها العسكرية، منذرةً بما تصنعه تلك الآلة من دوامات عنف عالمي.
لن تتوقف تلك الحروب حتى تتغير البنى الفلسفية الحاكمة، وما يتولد عنها من أنساق فكرية، جميعها تنتج مسوغات للحرب والسعي للسيطرة، وتوظف العلم والإعلام في خدمتها
إن استمرار هذه الحروب لن تكون إلا مقدمةً لحروب أوسع، ربما تفضي إلى عصرٍ جديدٍ من عصور العبودية العالمية، حيث تهيمن قوةٌ عظمى، أو تحالف لقوى عظمى، على المجتمع البشري، وتحكم قبضتها على المقدرات والعملات والتقنيات والموارد الغذائية، وتتحكم بها بشكلٍ يخدم مصالح الأقوياء وحسب، لكن هذا يكرس الحلقة المعيبة التي لا بد من كسرها لتتسق الحياة كما ينبغي، فالحرب تكرس الفساد وتعززه، والفساد يراكم أسباباً تفضي إلى الثورات والحروب، وهذا متحققٌ اليوم ولكن بحدودٍ معينة، ولن تتوقف تلك الحروب حتى تتغير البنى الفلسفية الحاكمة، وما يتولد عنها من أنساق فكرية، جميعها تنتج مسوغات للحرب والسعي للسيطرة، وتوظف العلم والإعلام في خدمتها.
يسير التاريخ صاعداً أبداً وإن بشكلٍ موجي، بميزان تترجح فيه قوة الخير على قوة الشر، ولولا هذا لفني العالم منذ آماد مضت، وهذا وحده يبعث الأمل وإن كان بعيداً، أنَّ البشرية ستبقى أمينة لهذا الناموس، وأنها ستصل في يوم لن نراه نحن، إلى عالم تحل فيه النزاعات التي لن تنتهي أبداً، بطرائق أخرى بعيداً عن الحرب والقتل والخراب.