شكل الحجاب في التاريخ السياسي لإيران جزءاً أساسياً من الصراع المركزي والمركب الدائر بين السلطة والإيرانيين لنَيلِ حريتهم منذ زمن الشاه، وهاهم يسعون لاستكمال خيوط حريتهم. وصحيح أن الشاه "رضا بهلوي" سعى لوضع بلاده على سكة الحداثة والعلمانية والانفتاح على الغرب ومنع ارتداء الحجاب، معاكساَ الخصوصية الدينية، لكن من سوء حظه أن رجال الدين كانوا ممسكين بالعديد من الخيوط الأساسية في إدارة البلاد، وعلى قدر كبير من التنظيم الذي منحهم رفض تلك السياسيات الانفتاحية، كما رفضتها العديد من النسوة اللواتي أصررن على حرية الاختيار، ليعود الشاه الأبن "محمد رضا بهلوي" عام 1941 بالسماح بالسفور الاختياري، وهو ما استفادت منه نساء الطبقة الوسطى، وخشيت منه "النساء المنزليات" في ارتيادهم للأسواق وما شابه.
ومع كل القمع والاعتقالات، استمرت نساء إيران في مواجهة حكم الشاه إبان ثورة 1979، ولجأن لارتداء التشادور بوصفه أداة ثورية في مواجهة الشاه وسياساته، أكثر من كونها قناعة دينية، بل مقاومة لإثبات أحقية النساء في امتلاك جسدهن وحرية التصرف بنفسها وهويّتها وحريتها في ارتداء الحجاب أو لا. مع ذلك لم يكترث الخميني بكل تلك النداءات وأعاد فرض الحجاب منذ 1979، وكانت القضية في العمق تتجاوز مسألة ارتداء الحجاب، إنما وسيلة للتهميش والقمع وفرض مقاسات أمنية، واستثمار قضية الفضيلة والأخلاق لممارسة التسلط السياسي، ما خلق مع مرور الزمن قواعد صارمة غير قابلة للتفكيك، ترسم وتوجه السلوكيات الشعبية، وترسخ لذهنية جمعية، ولا مجال لمعارضتها أو الخروج عن خطها. والغريب في الأمر أن تلك الفئات لم تجد أي حرج أمام القواعد الاجتماعية الإيرانية، حول غياب النصوص القرآنية المشيرة لزّي/شكل معين للحجاب، وعدّم وجود عقوبة واضحة لمن لا يرتدينه، فكارهو النساء وحريتهم، وهم بطبيعة الحال كارهو الحيوات والتعددية والمساواة، لجؤوا للعديد من الوسائل والتي تسمى "حيّلاً شرعية" للاستدلال على قانونية الحجاب مثل "الإجماع، أو قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو سير المعصومين"....إلخ، وكانت بذلك وسيلة ناجحة للسيطرة على هويّة المرأة في المجتمع الإيراني.
سبق وأن تمكنت النساء الإيرانيات من إنعاش حرية الاختيار عبر ارتداء زي فاتح وخلع الأسود، وخرجن في اعتصامات سميت "الأربعاء الأبيض" في زمن روحاني
والجيد في الأمر أن أطرافاً سياسية-دينية إصلاحية، غير متفقة مع التيار المتشدد في فرض الحجاب، "كحزب اتحاد شعب إيران- محمد خاتمي، وحزب اعتماد ملي-مهدي الكروبي"، يجدان ضرورة إلغاء قانون فرض الحجاب. وسبق أن تمكنت النساء الإيرانيات من إنعاش حرية الاختيار عبر ارتداء زي فاتح وخلع الأسود، وخرجن في اعتصامات سميت "الأربعاء الأبيض" في زمن روحاني، وخرجن سافرات الرأس، في تحدٍ واضح وإثبات لهويتهن وحيواتهن.
وحالياً، تستمر التظاهرات الشعبية في مختلف مناطق إيران بالتطور والانتشار وتكبر معها كرة الثلج، ويبدو أن الإيرانيين في طريقهم لحسم أمرهم، وأن لا يعود الماردُ للقمقم ثانيةً، ما لم تتغير معالم قمع وخنق حيواتهم، وإن تحقق ذلك سيعني الإخلال بعمق الانغلاق الحديدي المفروض على الشعب من قبل السلطة. وإن كان مقتل الشابة الكردية "مهسا أميني" لأجل طريقة ارتداء حجابها وفقاً للطريقة والشكل المرسوم لها، وبما يتناسب وطبيعة التشدد الديني وقمع المرأة عبر رسم شكل ونموذج معين لحجابها لا يجوز الخروج عنها، وإلا تعتبر مهرطقة وجاز هدر دمها. لكن القضية أكبر من ذلك، فالتظاهرات وردات الفعل ترميزٌ هويّاتي مرتين، الأولى كرفض فرض الهويّة السياسية السلطوية على الشعب، والثانية ثمة هويّات مقتولة في إيران ويرفض الجيل الجديد الاستمرار في طمس معالمهم وحيواتهم. لتتجاوز واقعية المواجهة بين الشابات والشباب والسلطة في إيران، مجرد فرض قطعة قماش أو لا، بل هي تتويج للحظة الانفجار الكامن في الصدور منذ عقود، ومواجهة بين حقّ الحياة والعيش وحرية الاختيار الهويّاتي الذي تنشده المجتمعات المحلية في إيران، وبين استخدام تلك القِماشة لفرض المزيد من هويّة الإلزام وإلغاء الحريات، وتلك الاحتجاجات تشكل نقلة قوية تضاف إلى سجل الشعب الايراني وخاصة النساء في رفض السياسات الاجتماعية التي قوضت بالكامل طاقة المرأة الإيرانية وجعلت من قمعها في صلب ممارستها من خلال سجن، ضرب، واعتقال النسوة اللواتي يعترضن على ارتداء الحجاب. وهو ما تضع السلطة في إيران أمام أزمة حقيقية مرعبة، وربما لا بوادر عميقة حول سقوط النظام الإيراني، لكنه أمام معضلة بنيوية، فالتظاهرات تمسّ جوهر وبنية هويّته الدينية وسلطته الاجتماعية الصلبة التي نجحت في تقويض ضخم للمرأة.
والمزيد من الاعتصامات يعني انتقال التطورات والنقاشات الحادة لداخل البيوت والصراع بين الأجيال، بين الشباب والشابات المتأثرين برياح العولمة وثورات الربيع العربي والتعددية السياسية وطبيعة الحياة في خارج إيران، وما بين الجيل التقليدي المحافظ والذي خلق عقود القمع عليهم مخاوف مركبة تتجاوز خوف الأباء على أبنائهم وسيدفع بهم للمشاركة معهم.
هذه التظاهرات تحديداً تختلف عن التظاهرات التي انطلقت عام 2009 بسبب نتائج الانتخابات حينها، وتختلف أيضاً حول طبيعة الاعتصامات التي تسببت الأحوال الاقتصادية بها. التظاهرات الحالية هي أبرز مظاهر وتجليات رفض أعمق أساليب فرض الهويّة على الشعب، وتطول مكانة المرأة في المجتمع الإيراني، ويشكل محفزاً ومحركاً كافياً لتتحول التظاهرات إلى نظام اجتماعي هوياتي جديد يتحدى النظام في إيران، وبل الأكثر ترجيحاً أن تشهد الدول الغربية تظاهراتٍ نسوية للتضامن مع النساء في إيران، وتالياً فهي تشكل أزمة ومعضلة للسلطة في إيران، فالتراجع عن مسببات التظاهرات واعتبار الحجاب حرية شخصية، يعني الإخلال بأعمق مقوماته، والإصرار والمضي في الإلزام والإجبار يعني الاستمرار في الدماء المهدورة والقمع.
والغريب في أمر السلطة الإيرانية إنها لم تلتفت للتغيرات البنيوية التي أصابت المنطقة كلها، وكيف لجمهورية مثل إيران، تتمدد خارجاً، وتسعى للمزيد من السيطرة على عواصم عربية مهمة، أن لا تلتفت للتبدلات الجوهرية التي أصابت هويّة الانتماء والالتزام للجيل الجديد الرافض لسياسات ربطه بأفكار ومفاهيم ما عادت تصلح لجيل التسعينيات وما بعد والذي في كل المحيط والفضاء الاجتماعي العام لمعظم الشرق الأوسط والدول العربية، ذلك الجيل ليس فقط لا يفهم ولا يستوعب سياسات الالتزام والفرض، وبل يبقى مندهشّاً من سلسلة القيود التي كُبلت بها الأجيال السابقة، وهو أساساً غير مهتم كثيراً بالسياسة والأحزاب، وطبيعة الصراع الإقليمي والدولي والمحلي على الشرق الأوسط، ولا المشاريع المتناقضة والمتعاكسة في التوجهات والسلوكيات اللازمة لها، لكنه يرى حالة الانكماش والعزلة والفقر والبطالة والجوع، أمام كميات الثروات المهدورة لأجل تلك الصراعات الجيوسياسية.
وتالياً ثمة صراع بين ثلاث هويّات جوهرية، الأول: هويّة الإلزام والقهر والفرض العام على الجميع عبر الشعارات والممارسات الدينية التي لم تعد تتناسب مع واقع الحياة، خاصة قضية طريقة فرض الحجاب والفقر، والثانية: كيف ترى النساء الإيرانيات أنفسهن، وآلية التعبير عن الهويّة النسوية الخاصة بهم، والثالثة: هويّة الجيل الجديد، والذي تتقاطع فيه الشابات والشباب في السعي نحو الانفتاح وقطع العلاقة بين حيواتهم ومشاريع السلطة الداخلية والخارجية.
الإصلاحات والانفتاح المطلوب أو استمرار المواجهة بين هويّة الانفتاح والتجديد والهويّة المحافظة والشديدة التعقيد والمركزية العميقة هي لُب هذه التظاهرات وهي لا تخص مكوناً دون سواه
وأمام كثافة مدّ الثورة "الناعمة" اكتفت الألسن الإيرانية باعتبارها مؤامرة خارجية، وتوجت مواجهة هذه المؤامرة بقصف إقليم كردستان أكثر من مرة خلال أقل من أسبوعين، وهو انعكاس تام لفشل فهم طبيعة وتركيبة التظاهرات وما يجري في إيران، وما يهم طهران ألا تقوم الأطراف الكردية الإيرانية المسلحة بالانخراط العسكري المباشر أو دعم المتظاهرين، رغبةً أو اعتقاداً منها أن التظاهرات ستأخذ شكلاً أخر لصراع الهويّات في إيران، علماً أن طبيعة وتركيبة التظاهرات لا تدخل ضمن صراع نوع أو قومية أو فئة اجتماعية محددة وأن بدأت في المدن والمنطقة الكردية في إيران أولاً، لكن الإصلاحات والانفتاح المطلوب أو استمرار المواجهة بين هويّة الانفتاح والتجديد والهويّة المحافظة والشديدة التعقيد والمركزية العميقة هي لُب هذه التظاهرات وهي لا تخص مكوناً دون سواه، والاكتفاء بالحل الأمني القمعي يعني المزيد من الضرر والصراع والعنف والمواجهات.