أزمة قلبية، احتشاء عضلة القلب.. ما أبسط العبارة، وما أسهل الموت، هو ليس شاقا دائما، فقد يكون أسهل من فنجان قهوة تدعى لشربه في ضيافة وحوش بشرية، وقد يكون أسهل من غربة أو حنين لا يهدأ.
سيكثر الحديث في الأيام المقبلة عن الروائي السوري "خالد خليفة" الذي فجعنا برحيله المفاجئ، هكذا نحن -السوريين- المسكونين بالقلق والتيه، والخوف، وانعدام معظم أوجه الحياة التي لا بدَّ منها لكي تكون حياة حقيقية، نحن -المفجوعين- دائماً، الذين لم تعطنا الحياة منها سوى جريان دم مقهور في أوردة تشيخ باكراً، ويضخه قلب منهك من الخيبات والحزن.
ولأننا هكذا، فنحن ننسى أن نحتفي بمن نحب، وننشغل عما يجب الانتباه له قبل فقده، لكننا، وعند فقده، نستيقظ على فجيعة أخرى، ونسيان آخر، فنحزن بشدة، ونأخذ في ندب أنفسنا أولاً، وفي ندب من فقدنا تالياً، كما لو أننا نكفّر عن انشغالنا أو نسياننا.
أذهلني "خالد خليفة" بأمر آخر، هو قدرته الفائقة على منح الحب، كما لو أنه نبع يفيض فيغمر من حوله به، ويشعرك بعد ثوان أنك تعرفه منذ زمن طويل، تعرفه وتحبه أيضاً
في مطلع عام 2012م، التقيت مصادفة بـ "خالد خليفة"، لأول مرة في نادي الصحفيين بمنطقة "العفيف" في دمشق، كنت قد قرأت له عملاً واحداً هو روايته "مديح الكراهية"، وربما لم أكن لأقرأها لولا قصة منع السلطات السورية لها في سوريا، يومها لم أعجب كثيراً بروايته، رغم أنها كانت قد أصبحت مشهورة وترجمت لعدة لغات عالمية، ورأيت فيها رواية عادية نالت من الشهرة أكثر مما تستحق.
في ذلك اللقاء أذهلني "خالد خليفة" بأمر آخر، هو قدرته الفائقة على منح الحب، كما لو أنه نبع يفيض فيغمر من حوله به، ويشعرك بعد ثوان أنك تعرفه منذ زمن طويل، تعرفه وتحبه أيضاً، وشوشته في ذلك اليوم أن روايته "مديح الكراهية" لم تعجبني فضحك بعمق.. ثم وشوشني قائلاً "ولا أنا".
في لقاء آخر به، سأزداد يقيناً أنه يمكن للبساطة في كل شيء أن تكون مدهشة، في الحديث، وفي اللباس، وفي التماعة الصدق في العينين، والأهم في تلاشي المسافة بين الروح واللسان، أن تكون أنت، بلا إي ادّعاء أو تصنّع، أن تكون شفافاً، وواضحاً، يومها وكنت قد قرأت له رواية أخرى، قلت له أنت أجمل مما تكتب، فضحك مستغرباً، وعندما قلت له إنك أكثر صدقاً في حياتك العادية، وهذا ما يدفع كل من يلتقيك إلى حبك.. ليس ما تكتب، رغم إعجاب كثيرين به، هو ما يجعلك محبوباً، الكتابة تجعلك معروفاً وروحك تجعلك محبوبا.
اليوم أفهم جيداً لماذا يحزن السوريون الذين يعرفون "خالد خليفة" كل هذا الحزن لفقده، السوريون ذاتهم الذين يتقاتلون بحقد وتنتصب كراهية شديدة فيما بينهم، يجمعون على حبه، لأنهم ببساطة شديدة يفتقدون الحب كثيراً، لكن أي سر في هذا الشخص الآسر، الودود، المبتسم دائما والقادر دوما على سكب كل هذا الحب؟
في البلدان المحكومة بالاستبداد السياسي، والديني، والاقتصادي، والثقافي، والعاطفي وفي كل أوجه الحياة.. يصبح الحب عملاً شاقاً، لأن الأوجه المتعددة المفصومة للفرد المقموع، والتي يفرضها القمع الشديد وتفرضها ضرورات الحياة، تجعل من القدرة على الحب ضعيفة، فيولد الحب فيها هشّاً، وعرضة للتشوه، وانتهازياً، ولأن الحب يحتاج أول ما يحتاجه، هو أن تكون المسافة بين حقيقة الشخص العميقة وظاهره المعلن ضيقة جداً، إن لم تكن معدومة، ولأن الحب يحتاج إلى الصدق، والشجاعة والانسجام الداخلي، فإن أرواحنا غالباً ما تتلعثم في أن تتهجّى أبجدية الحب.
في روايته "الموت عمل شاق"، يقول خالد خليفة "لا يمكن احتمال العيش وسط طوفان بشري يحرض على القتل إلى هذه الدرجة، يستحضرون ثارات من أعماق التاريخ لتبرير القتل"، نعم لا يمكن احتمال العيش وسط طوفان الكراهية، والأهم أنه لا مكان للحب في مساحة تفور بالدم، وترفع القتل راية مقدسة، وتجعل من الحقد المدجج بالرغبة في سحق الآخر، وجهاً وحيداً للحياة.
لا يمكنك أن تنجو من طاعون الحقد هذا ببساطة، وربما تكون واهماً إن اعتقدت أنك قادر على حماية نفسك منه، فكيف استطاع خالد خليفة أن ينجو، وهو من قال: (من الصعب اكتشاف أنّك عبارة عن وهم، تحسب نفسك بعيداً عن قوّة الكتلة الجماهيرية وبطشها، في النهاية تكتشف وهم فرديّتك المتميزة، وما أنت إلا حذاء قديم يسير وسط الحشود).
هل يمكن لمن أجمع كل من يعرفه على الإحساس بالحزن والفجيعة لرحيله، ألا يكون موته جميلاً؟
لموت خالد خليفة وجهٌ جميل، نعم ليس الموت دائماً بشعاً، فمن يموت ينسى، لكن من يبقون بعد موت أحد ما يعطون لموته معناه، أو يعطون لحياتهم معنى موته، فهل يمكن لموت استطاع أن يهبنا كل هذه القدرة على التلاقي والحب ألا يكون جميلاً؟
هل يمكن لمن أجمع كل من يعرفه على الإحساس بالحزن والفجيعة لرحيله، ألا يكون موته جميلاً؟
في موته المباغت، يقول لنا "خالد خليفة"، الحب عمل شاق وقد يودي بك إلى أزمة قلبية، لكن لن تكون الحياةُ حياةً بدونه.