لم يعجبني يوما "التحديث والتطوير" وسط العاصمة دمشق، مظاهر الغنى، فندق فور سيزن، روتانا كافيه، محال لأشهر الماركات العالمية، ومطاعم ومقاهٍ، كنت أمر بجانبها في طريقي إلى سوق شارع الثورة الشعبي ومقاهي ساروجة. يومها كنت طالبا في جامعة دمشق ومثل معظم السوريين كان بإمكاننا العبور وتأمل نتائج السياسة الاقتصادية لبشار الأسد، ودائما كنت أفضل حديقةً على بناء فندق في العاصمة.
يشبه آذار الجاري في سوريا آذار من العام 2011، عندما بدأت مرحلة التحول في المجتمع السوري بعد تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية شكلها نظام الحكم، ليظهر الصراع الطبقي على أشده بدءا من الأرياف الفقيرة والمهملة وصولا للمدن السورية، فيما سمي إعلاميا بـ ثورة الحرية والكرامة، ما غطى على "الاقتصادي" في الثورة السورية.
ثماني سنوات مرت على الثورة، ظهرت نتائجها على مستويين اثنين، تمسك السوريون بحق حرية التعبير من شمال البلاد إلى جنوبها في العاصمة دمشق مركز سيطرة النظام، واتساع الفوارق الطبقية إثر ظهور أمراء الحرب و تجارها المرتزقة الذين اغتنوا وأصبحوا هم الدولة.
الإفقار والتمهيد للثورة
مرحلة جديدة من السيطرة على الاقتصاد شهدتها سوريا مع وصول بشار الأسد إلى الحكم، والذي اعتمد سياسة "لبرلة الاقتصاد" وتحرير الأسواق، وتجلى ذلك من خلال المشاريع الخدمية والعقارية وشركات الخليوي والمشاريع السياحية الفخمة مثل "الفور سيزن" وماركات الألبسة وسط العاصمة والذي كان بإمكان السوريين المرور بجانبها وتأملها فقط.
بعد تصفية "اللبرلة" للقطاع العام، ودعم النظام لقطاع الخدمات وهو قطاع كان يشمل ما يقارب نسبة 20% من المجتمع، وهي النسبة التي استفادت من هذا التحوّل الاقتصادي، وظلت تعيش في بحبوحة.
ولم يكن عادلا لخريجي الجامعات السورية عقب إنهاء دراستهم غير خيار واحد وهو الخدمة الإجبارية، وهي عامل ساعد النظام على تخفيف أرقام البطالة بين الشباب، تلك كانت مقدمات الثورة السورية التي انطلقت منتصف آذار 2011.
سيناريو أكثر قسوة
في العاصمة وباقي المدن السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري، تنتشر حواجز ودوريات أمنية، تبحث عن الشباب المطلوبين للخدمة الإلزامية والاحتياطية في قواته، بعد أن أصبحت العسكرة هي الظاهرة الطاغية على مناطق سيطرته؛ ميليشيات أجنبية ومحلية تجوب الشوارع وتفرض قانونها.
النظام الذي تحول بشكل كامل بعد ثماني سنوات من الثورة لـ"ظاهرة عسكرية"، جر الشباب والمجتمع إلى دوامة العسكرة، في محاولة للتخفيف من آثار انهيار الاقتصاد وارتفاع نسبة البطالة، بزج من لم يستطع الهجرة والفرار في صفوف قواته وميليشياته الموالية والتابعة له.
"الحرب لم تنته" هذه الجملة كانت المحور الرئيسي في خطاب الأسد الأخير، فهو كنظام لم يعد قادرا على الحياة من دون الحرب والعسكرة، أما الحديث عن إعادة الإعمار لا يصلح حتى مُسكنا مؤقتا للسوريين الذين يزدادون فقرا.
والسؤال المطروح للنقاش والتحليلات، على من سيكمل بشار الأسد حربه؟ بعد توزع مناطق السيطرة بين قوى الصراع الإقليمية والدولية وانتهاء معظم الأعمال العسكرية، والجواب الأكثر ترجيحا هو؛ "السوريون الخاضعون لسيطرته"، فهل ستكون الكتلة الاجتماعية المفقرة مرنة أمام الضغط أم إنها ستنفجر؟
الخوف من ثورة جديدة
هاجم بشار الأسد في خطابه الأخير أمام رؤوساء المجالس المحلية الاحتجاجات على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب تردي الوضع المعيشي للسوريين وانقطاع مادة الغاز وغلاء الأسعار معتبرها حربا جديدة ومؤكدا على أن الوقت ليس مواتيا للانتقادات في حين أن حربه مستمرة، في إشارة إلى تواصل تعبئته العسكرية في بيئة أنهكتها السنوات الثمانية اقتصاديا وبشريا.
بيئة الحرب التي خلقها النظام ليست صالحة حاليا لشعارات إعادة الإعمار، فالمرحلة هي لتقاسم الغنائم مع أمراء الحرب والمرتزقة، ورد الجميل لمن قاتل مع الأسد لوأد الثورة السورية أو موّل ميليشياته.
أواخر الشهر الماضي حذفت أجهزة النظام الأمنية حلقة من برنامج حواري على قناة الإخبارية السورية التابعة للأسد، وكان أحد ضيوفها مدير غرفة صناعة دمشق فارس الشهابي الذي تحدث عن عمليات التهريب من المعابر السورية، وذكر اسما كبيرا من مرتزقة الحرب وهو المدعو" أبو علي خضر" مؤكدا وجود الكثيرين من أمثاله، ولفت الشهابي إلى أنه ليس خائفا من كلامه، في إشارة لنفوذ هؤلاء المرتزقة وتجار الحرب في نظام الأسد الذي حذف الحلقة، لكن المقطع بقي موجودا على مواقع التواصل الاجتماعي.
تحت خط الفقر
الأمم المتحدة أكدت في تقرير أن أكثر من 80 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأكثر من 11 مليون سوري بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة، بما في ذلك الغذاء والرعاية الصحية والمأوى والمياه والصرف الصحي والنظافة، وحتى في سبل عيشهم.
لافتة إلى تأثر نظام الرعاية الصحية في البلاد بشكل كبير من الحرب، إذ تبين أن 46 في المئة من المستشفيات والمرافق الصحية الأولية هي غير فعالة إما جزئياً أو كليا، فيما يقدر عدد الأشخاص المحتاجين للمساعدة الصحية بـ 13.2 مليون شخص.
في مناطق سيطرة النظام معارضون للأسد ومؤيدون له، وحسبما تنشر وسائل إعلام موالية، فإن الأسد يحاول تهدئة الاحتقان الشعبي في مناطق الساحل السوري التي كانت وقودا بشريا لحربه، إلا أن الظروف في سوريا مهيئة لثورة (صراع طبقي)؛ فالجميع قادر على امتلاك السلاح والجميع جائع أيضا.