عاشت دمشق في بداية القرن الماضي نشاطاً لافتاً لما عرف بالجمعيات، وكان لجمعية الاتحاد والترقي في تركيا دور مهم في تلمس بعض الشخصيات العربية لقوميتها، في مناخ الحديث عن الإصلاح والتحول إلى الاحتكام للدستور الذي برز بعد إقراره عام 1908.
وتوسع الحديث أكثر عن اللامركزية في الحكم بعد التخلص النهائي من حكم السلطان عبد الحميد، فأسست كل الجمعيات التي تتضمن مفهوم القومية العربية، ضمنياً أو ظاهرياً، بشكل قانوني، وبعضها أسس ونشط في الأستانا، ونشأ بعضها الآخر في عواصم الأقاليم كدمشق وبيروت وبغداد، كان معظمها يميل إلى التعاون العربي التركي مع المحافظة على التمايز القومي، مع الإبقاء على الروابط الإسلامية قائمة رغم وجود عدد كبير من المسيحيين ممن ساهموا في تأسيس هذه الجمعيات.
اللغط القوي حول القوميات قاد بعض مؤسسي الجمعيات العروبية لأن تعقد مؤتمرا لها في باريس رغبت من خلاله توجيه رسائل إلى السلطات العثمانية الجديدة وإيصال بضع توصيات ومطالب، تتمركز كلها حول إبراز الهوية العربية والحصول على "كوتا" محددة في مجالس الدولة السياسية والاقتصادية، وتحسين شروط التعامل باللغة العربية وعدم الزج بالمجندين العرب في مناطق خدمة بعيدة.
نجح المؤتمر دعائيا ونقلت الصحف المحلية أخباره بسعادة، وأضاف زخما وجرأة للجمعيات العربية لزيادة نشاطها، وأعطى مكان انعقاده في باريس فرصة لبعض الوجوه العربية أن تعقد لقاءات مع ممثلي الحكومة الفرنسية مما خلق شيئا من التوجس والامتعاض التركي، ولكن مندوبا عن جمعية الاتحاد والترقي وهو ممثلها في باريس شكري بك حضر وأخذ نسخة عن المطالب العربية.
أظهرت قيادات الدولة العثمانية الجديدة عدة وجوه أمام مطالب مؤتمر باريس العربي، ولم ترغب بتنفيذها وإن أظهرت مرونة في الاستماع إليها، وتفهم بعضها، ولكن نشوب الحرب العالمية الأولى، جعل السلطة العثمانية تتشنج قليلا وخاصة أنها دخلت الحرب بغير رضا كثير من العرب، وكإجراء وقائي تم حل كل هذه الجمعيات، وكان الشريف حسين قد أرسل رسالة إلى أنور باشا وزير الحربية التركي يحثه فيها على عدم توريط الدولة العثمانية بالحرب، وتعلل بقلة الإمكانيات، وبكثرة التجمعات العسكرية المعادية المحيطة بالجزيرة العربية.
وكان الشريف حسين على حق ففي مصر توجد قوات بريطانية ضخمة وبمجرد عبور قناة السويس تكون قد دخلت أراضي السلطنة.
لم يستمع أنور باشا لتوصية الشريف وكان قد عقد تحالفات عميقة مع الجانب الألماني وراهن عليه في كسب الحرب، ولإحراز موقف متقدم تقرر أن يشن هجوما استباقيا على مصر عبر قناة السويس لتحييد هذا القطاع وفصله عن المعارك التي تجري في أوروبا وعدم تمكين بريطانيا من إرسال مساعدات عبر القناة إلى تجمعاتها العسكرية في الجانب الآخر من المتوسط.
قاد جمال باشا الحملة على القناة ولكن لم يفلح أكثر من سبعمئة جندي في عبورها إلى الطرف الآخر فوقعوا جميعا في الأسر وعادت الحملة بفشل ذريع لتتمركز في القدس انتظارا للمعركة المقبلة، كان الربع الأول من العام 1915 قد انقضى وبات على جمال باشا تصفية حساباته مع النافخين بأبواق العروبة.
يقول جمال باشا في مذكراته بأنه كان يتلقى كثيرا من الوشايات برجالات العرب بعضهم ببعض، ولكنه لا يلتفت لمعظمها لأنه يتفهم حالة الحسد والضغينة التي تتملك الكثيرين، ويقول بأنه بمجرد دخوله سوريا كقائد للجيش الرابع وحاكمٍ للإقليم عرضت عليه وثائق تمت مصادرتها من قنصليات فرنسا في دمشق وبيروت، توحي بوجود صلات بين بعض منتسبي الجمعيات العربية والجانب الفرنسي، فقرر جمال باشا حين فشلت حملته على القناة أن يلتفت إلى الوشايات، التي أشارت إليه بعضها بوجود مؤامرة على الحكم التركي في جنوب صور وصيدا تقودها الجمعية اللامركزية، وممثلها عبد الكريم الخليل ومعه رضا الصلح. تلقى جمال باشا هذه المعلومات في آخر شهر حزيران عام 1915، فأمر على الفور باعتقال ثلاثة عشر رجلا من المتورطين في المؤامرة والمنتسبين إلى الجمعية اللامركزية وبعد عشرين يوما نفذ حكم الإعدام بأحد عشر رجلا بعد أن تمكن أحدهم من تجنب القبض عليه فهرب، ولم يتم تنفيذ حكم الإعدام برضا الصلح، وعرف الأحد عشر المحكومون بالموت بـ"قافلة الشهداء الأولى" التي تم تنفيذ الحكم بها في ساحة البرج في بيروت.
تزامن القبض على أعضاء الجمعية اللامركزية مع قدوم الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق للقاء أعضاء الجمعية الفتاة ورجال الإصلاح العرب، بعد أن قبل الشريف حسين الدعوة التي وجهتها الجمعية عن طريق نسيب البكر بإيفاد أحد أبنائه للقاء الأعضاء، وبينما كان تنفيذ الإعدام بأعضاء اللامركزية يتم في بيروت كانت الاجتماعات منعقدة في دمشق مع الأمير فيصل لتنسيق الفصل التالي من التحرك العربي المشترك ضد الدولة العثمانية.
ويمكن أن يعتبر فشل حملة جمال باشا على قناة السويس مؤشرا لنهاية عصر الدولة، كما شجعت خسائرها هي وحليفتها ألمانيا على ضفاف الدردنيل الشريف حسين على إظهار وجهه الضاحك لبريطانيا وقطع طريق العودة بشكل نهائي مع الدولة العثمانية.
كانت قراءته للموقف العسكري صحيحة ولكنه كان بصدد الدخول في مقامرة سياسية معتمدا على سمعة بريطانيا الحسنة، ومجموعة من الوثائق التي أرسلوها إليه على شكل رسائل، كان طموحه واسعا، وبهذه الحسابات أرسل ابنه ليلتقي مجموعة من العرب في دمشق العاصمة البعيدة عنه والتي لا يعرف عنها كثيرا، وجمال باشا صاحب الكلمة فيها، وهو يقوم للتو بإعدام أحد عشر رجلا من أعضاء الجمعيات التي يعتمد عليها الشريف وابنه.