يتميّز الجزء الثاني من مسلسل مسرح العرائس لفرقة (مصاصة متة) بعنوان (يوميات دكتاتور صغير، 2012) بتركيزه على الأسئلة التي يواجهها الفكر الثوري، وصولاً إلى النقد الثوري في بعض الحلقات. وهو ما يجمع بينه وبين أعمال مسرحيات عالمية ثورية عديدة مثل (موت دانتون، جورج بوشنر، 1835)، (1789، جماعة مسرح الشمس أريان مينوشكين، 1964)، و(مارا صاد، بيتر فايس، 1965)، (الشرفة، جان جينيه، 1956).
فكل هذه الأعمال المسرحية تتطرق للأسئلة الفلسفية والاجتماعية المتعلقة بالفكر الثوري، ويمكن من خلال تتبع موضوعاتها تلمّس الأسئلة الأساسية التي شغلت التجارب الثورية.
الذاكرة الجمعية ودوامة العنف
تركز الحلقة الأولى بعنوان (الهروب) على مصير الذاكرة الجمعية أمام العنف، فيجري حوار بين الحاكم المتسلط (الدمية بيشو) مع مساعده (الدمية الشبيح)، ويتركز الحوار حول ضرورة العنف لتحقيق النظام، وضرورة العمل على النسيان ومحو الذاكرة، تقول (الدمية الشبيح): "نحنا الأولى أن نتخلص من الذاكرة، لأنو وقت نقتل لازم ننسى".
وتتطرق الحلقة الثانية لفكرة الانتصار القائم على أنقاض الجثث، فتدين النصر الزاهي فوق ضحايا العنف وسحق الأحياء، بينما يكرر الخطاب الحاكم وعود واهية بتجديد الدستور والديمقراطية. تضع الحلقة المتلقي أمام المفارقة بين خطاب برنامج تغيير سياسي على أنقاض الموت الجماعي. هذه الموضوعات مشتركة مع مسرحية (بيتر فايس 1916-1982) التي يختار عنوانها الأصلي كاملاً: "اضطهاد واغتيال جان بول مارا كما قدمته فرقة تمثيل مصحة شارنتون تحت إشراف السيد دي صاد"، يأتي سؤال العنف لإرساء النظام على شفاه المفكر الثوري (جان بول مارا 1743-1793) الذي يقول في المقطع المعنون "أنا الثورة": "ذات يوم كنا نعتقد أن عدة مئات من الموتى فيهم الكفاية، واليوم لا يمكن حصر عددهم، هناك في كل مكان، هناك في مكان".
عصابية المستبد.. انفعالية الثائر
يركز نص (بيتر فايس) على الصحة النفسية والفكرية التي يعيش عليها رمز الاستبداد الجديد (مارا)، وكذلك في حلقة من مسلسل العرائس يشتكي الدكتاتور للطبيب النفسي قائلاً: "بجرة قلم بمحي مدينة. شو هالملل، شو هالفراغ"، إنه لم يعد يشعر بالزمن، وأغرق في متعة القتل ونشوة التعذيب، يسأله الطبيب عن الخوف: "أخاف بين جنودي".
من عرض ماراصاد إخراج بيتر برووك
أما أمنيته الأعمق هي أن يشارك بمظاهرة: "مشان أعرف شو هي الحرية"، يسأل الطبيب: "ليش أنت مانك حر؟". يبدأ بيشو بإظهار الانحرافات والبارانويا، فيتهم الطبيب بأنه جزء من المؤامرة التي ترغب في تصويره كمجنون. وفي نوبة من الهستيريا يهجم الدمية بيشو على الطبيب ويطعنه في بطنه فيقتله.
كذلك تنتهي مسرحية (مارا صاد) بطعنة تاريخية، تلك التي توجهها الثورية (شارلوت كوردي) إلى جان بول مارا انتقاماً من ضحايا قرارت الإعدام التي أصدرها باسم العنف الثوري. لكن شخصية (مارا) في المسرحية تمثل أيضاً إرداة الضعفاء والمهمشين، مبرراً حتى عنفهم الانتقامي: "ما يحدث الآن لا يمكن إيقافه، كم قاسوا واحتملوا قبل أن ينتقموا، ولا تفكرون في أنكن أنتم الذين دفعتموهم إليه والأن تولولون كقضاة متأخرين، ماذا يعني هذا الدم إذا ما قورن بالدم الذي سفك في غاراتكم وحملاتكم، ماذا يعني نهب عدة منازل إذا ما قورن بالإبادة الشاملة التي مورست ضدهم".
حلقة "التحقيق"
حجج الشر الأبدي ولا جدوى الإصلاح
هكذا تتعامل الأعمال المسرحية مع المفاهيم الثورية بجدلية فكرية وفلسفية مستمرة. في حلقة من مسلسل العرائس بعنوان (الوحش)، يتحجج الجلاد المستبد بفساد الجميع، فساد الفكر الإنساني وعبث المحاولة في إصلاحه، فيقول المستبد: "ليش عم تقاوم؟ كلنا متل بعض، وحوش. عن شو عم تدافع؟ أية قيم بهالعالم؟ العالم تخلى عنك، بدك تكون المسيح، أنت هو بعالم تاني، وما في هون إلا الوحش".
حلقة "الوحش"
يسعى خطاب الجلاد أن يركز على الانهيار الأخلاقي في تاريخ الحضارة الإنسانية وفي ممارسات الثقافات الحالية ولا جدوى التغيير. فكرة مماثلة ترد في حديث (الماركيز دو ساد) الذي يعارض النضال الثوري: "لن تتمكن من إسعادهم، سيقف كل منهم في منتصف الطريق منزعجاً من المساواة، أتعتقد أن التقدم ممكن لو أن كل فرد يصبح حلقة صغيرة في سلسلة ضخمة؟ أتعتقد أن في الإمكان تحقيق الاتحاد بين البشر، بينما ترى قلة من الناس حاولاو في البداية تحقيق الوحدة والإنسجام، فإذا بهم يختلفون بشدة، ويعادون بعضهم بعضاً
الفساد، الغرور، الانتقام كأخطاء ثورية
يعتبر الانتقام واحداً من الموضوعات التي تشكل خطأ العنف الثوري، تعالج الموضوعة في حلقة تبرهن أن هدف التعذيب هو إخراج العنف من الضحية وتحويل الصراع إلى القتل. تزداد الحبكة تعقيداً حين تُقاد (الدمية آزادي) إلى العنف، وتقدم على طعن الدمية العنفية -المستبد- بآلة حادة. لقد تحولت الضحية إلى القتل والانتقام، و تنتهي الحلقة باقتباس من فريدريك نيتشه: "احذر وأنت تقاتل الوحوش أن تتحول إلى وحش". وكذلك يعتبر الكاتب (بيتر فايس) أن الانتقام هو انتصار للموت المستمر.
يتابع مسلسل العرائس نقداً واقعياً لقوى المعارضة، ويقوم النقد على ركائز مثل الصراعات الداخلية: "ليضيع العقل ويجن العالم"، أو في الحلقة الخاصة عن الفساد، حيث يقول الشبيح للمعارض: "صار الفساد عندكم، بتعرف حجم المساعدات الإنسانية الدولية يلي انسرقت"، ويخبر المعتقل أن أخاه الأكبر وشى به، وتنتهي الحلقة باعتراف (آزادي) بالأخطاء المرتكبة في هذا الصدد، وكذلك ينتقد (مارا) الفساد في بعض الفئات الثورية ورغبتها في التملك، حين يقول:
"لوثتنا الأفكار التي توارثناها جيلاً بعد جيل، وحتى أفضلنا لا يمكنه التخلص منها، نحن مبدعو الثورة لا نستطيع دفعها إلى الأمام. في الجمعية الوطنية، ما زال يجلس بعض الأفراد، كل مستغرق في طموحه، كل يريد أن يأخذ شيئاً من الأيام الخوالي، هذا صورة جميلة، وذاك عشيقة فاتنة، هذا طواحين، وذاك أحواض سفن، هذا الجيش، وذاك الملك، وهكذا نقف مرة ثانية، أمام حق الملكية الذي لا يمس، وحق الثراء المقدس"
ويأتي النقد الثوري على واحدة من أكثر الموضوعات حساسية، الغرور. فيلجأ المستبد إلى إفساد العقول المعارضة بالغرور: "الغرور ببعد عن الواقع، وبولد صراعات الوجاهات". والانعزال عن الواقع هو النقد الذي يوجهه الماركيز ساد إلى مارا: "وحيداً مع تصوراتك عن العالم، التي لم تعد تتطابق مع الواقع الخارجي، حاصرتك الحقيقة في مكان ضيق"، لنكتشف تالياً أن الغرور والاكتفاء بالنفس هو الذي يقعد ساد عن الناشطية الثورية: "أما أنا فلقد تخليت تماماً عن الاهتمام بها حياتي هي الخيال، الثورة لم تعد تهمني".
تغيير القمع القائم أم تأسيس القمع القادم؟
يقول صاد في المسرحية: "من أجل أن نميز الصواب من الخطأ يجب أن نعرف أنفسنا، أنا لا أعرف نفسي، وعندما أعتقد أنني وجدت شيئاً ما أشك في اللحظة التالية. ليس هناك حقائق، لست أدري أنا الجلاد أم الضحية؟".
في أكثر الحبكات المركبة بمسلسل العرائس، وجاءت تحت عنوان (التنكر)، يتنكر الحاكم ليدخل بين صفوف المسيرات الموالية له، وفي ساحة الأمويين يكتشف رويداً رويداً حقائق عن المتجمعين للهتاف بأسمائه، إنهم ثنائيات من العشاق يسعون إلى اللقاء بعيداً عن أعين الأهل، إنهم رجال متحرشون بالمشاركات النساء، إنهم موظفات وموظفون مجبرون على القدوم إلى المسيرة بسبب أوامر أرباب العمل. وبينما يشتم الحاكم المتنكر هذه المسيرات يعتقل من قبل رجال الأمن الذين لا يتعرفون إلى هويته، يتحول في الحلقة الحاكم إلى ضحية لنظام الرقابة والقمع الذي أرساه، ويجد نفسه مجبراً على الهتاف للحاكم الذي هو نفسه.
حلقة "التنكّر"
يعتبر نص (مارا صاد) من أعمق النصوص الأدبية في مناقشة أسئلة الثورة، السلطة، الأنا، الجماعة، الفاعلية أو اللاجدوى. يبتكر فيه (بيتر فايس) لقاءً بين نموذجين فكريين لن تنتهي أسئلتهما على أن تكون أسئلة جدلية على مر تاريخ الفكر، بينما يمثل (ماركيز دو صاد) الفكر المتكفي بالخيال والمتجاوز لأفخاخ القضايا الوطنية، فيقول في المقطع المعنون (صاد يهزأ بجميع الأوطان):
"حينما نحكم بالإعدام وتطير الرؤوس نسمي ذلك عدالة.. أترى حماقة حب الوطن؟ إنني تخليت تماماً عن هذه البطولة منذ وقت طويل، وإني أهزأ بهذا الوطن وبكل الأوطان الأخرى. أهزأ بكل النوايا الطيبة التي تضيع في طريق مسدود، أهزأ بكل الضحايا التي تبذل من اجل أية قضية، فأنا لا أؤمن إلا بنفسي".
أما شخصية (جان بول مارا) فتمثّل ضرورة الفاعلية وابتكار التغيير حتى لو نحت التجربة نحو الأخطاء: "علينا ابتكار الثورة". وكلا النقيضين ينشدان الحرية بطريقة مغايرة، يسعى (مارا) إلى التغيير للتحرر من السلطة القمعية المستمرة، بينما يخشى (صاد) أن يشارك بفكر ثوري يجد نفسه مقموعاً من قبله في نهاية المطاف، إذ يقول:
"استسلم يا مارا، لقد قلت بنفسك أنه لا جدوى من هذه المحاولات، أنا أيضاً تخليت عن أهم مؤلفاتي. بماذا تريد أن تأمر الثوار التائهين، تكلمت يوماً عن أصحاب السلطة التي تستحيل القوانين على أيديهم أدوات للقهر والإرهاب، أتريد أن يتحكم إنسان فيك، وفي كلماتك التي تكتبها، ويصدر إليك أوامر جديدة دائماً لترددها حتى في أثناء نومك؟".