يعاني التعليم الجامعي الحكومي في سوريا من انخفاض في مستويات الخريجين عموما، ولا سيما في الجانب العملي، وهي واحدة من المشكلات التي بدأت تظهر في العقود الأخيرة مع تدفق أعداد كثيرة من الطلاب إلى الجامعات، وعجز هؤلاء عن الوصول إلى المستوى العلمي المطلوب من خريج الجامعة.
غير أن الإنصاف يقتضي أن نذكر بأن هذه السوية المنخفضة لا تقتصر على سوريا وحدها، ولكنها مشكلة عالمية ولا سيما في البلدان التي جرت فيها خصخصة التعليم العالي، فهذه الخصخصة تعني أن الجامعات ستلجأ إلى استقطاب أكبر عدد من الطلبة، وهذا لا يتأتى إلا من خلال تسهيل نجاح الطلبة في الامتحانات عبر أساليب شتى، بحيث يغري النجاح الطلاب الآخرين بالقدوم، لأن تطبيق سياسة صارمة سيؤدي إلى نفور الطلبة من التسجيل وانصرافهم إلى جامعات أخرى.
هذا هو جوهر النظام الليبرالي بنموذجه الأنغلوساكسوني الذي تتفاوت فيه سوية الجامعات بحسب صرامتها الأكاديمية، وبحسب كفاءة الجهاز التعليمي فيها، وكذلك بحسب ما تتوفر عليه من مخابر ومراكز أبحاث وغيرها. وعلى الرغم من هذه الخصخصة، فإن تلك الجامعات تتلقى مبالغ مالية من الحكومات لدعم قطاع البحث العلمي. ومع أن تلك الجامعات تقوم أساسا على الأقساط الجامعية التي يدفعها أصحاب رؤساء الأموال كي يتمكن أبناؤهم من تلقي التعليم فيها، فإنها عادة ما تخصص نسبة لا بأس بها من مقاعدها للمتفوقين دراسيا بغية استقطابهم، ومن هؤلاء يخرج الكثير من المتميزين في مجالات العلوم والآداب والهندسة وغيرها، هذا إن تركنا جانبا الفئة البرجوازية نفسها، وهي طبقة مبدعة ورائدة مختلفة عن نظيرتها في دول العالم الثالث، ففي علمنا ينحصر همّ هذه الطبقة بالاستهلاك والمباهاة الاجتماعية فقط.
فرادة النظام السوري أنه أوجد نسخة سورية مشوهة لكل نموذج تبناه، على كل المستويات السياسية والاقتصادية..إلخ. ولم تكن الجامعات الخاصة إلا حلقة في هذه السلسلة
فيما يتصل بسوق العمل، فإن خريجي الجامعات يحصلون على فرص عمل بحسب تصنيف تلك الجامعات، فخريج جامعة مشهورة كجامعة كولومبيا ستكون فرصته أكبر من فرصة خريج جامعة مغمورة...إلخ. هكذا يحدد سوق العمل عموما الخريج الجيد من الخريج غير المؤهل.
مع هزيمة المعسكر الاشتراكي، وانتصار المعسكر الليبرالي بصيغته الأميركية التي بشرت بها العولمة، وجد النموذج الأنغلوساكسوني في خصخصة التعليم صدى ليس في سوريا وحدها، على خلاف النماذج الأوروبية كالنموذج الألماني القائم على رعاية الدول للتعليم والإشراف الصارم عليه، ولكن فرادة النظام السوري أنه أوجد نسخة سورية مشوهة لكل نموذج تبناه، على كل المستويات السياسية والاقتصادية..إلخ. ولم تكن الجامعات الخاصة إلا حلقة في هذه السلسلة.
مع تبوُّء الطبقة البرجوازية مواقع متقدمة في توجيه القرار الاقتصادي وإدارته، بدأت تلك الطبقة بإنشاء جامعات خاصة هدفها المعلن هو رفد سوق العمل بالخريجين الذين يغطون اختصاصات لا توجد في الجامعات الحكومية بفعل الصرامة الأكاديمية فيها، والمحافظة على القطع الأجنبي الذي كان ينفقه الأثرياء في تعليم أبنائهم في دول مثل أوكرانيا وروسيا.
علينا ألا ننسى الفارق الذي أشرنا إليه وهو أن هذه الطبقة ليس لها أي همّ تحديثي أو تطويري كما هو شأن نظيرتها الغربية، ولهذا فما جرى تنفيذه على الأرض أن هذا السماح بافتتاح الجامعات الخاصة كان غطاء لعملية تخريب متعمد، فالبرامج الأكاديمية التي افتتحت في تلك الجامعات سرعان ما تحولت إلى برامج مماثلة لنظيرتها في الجامعات الحكومية، على الرغم من أن الشروط الأولى لافتتاح الكليات الجامعية كانت ألا تقوم تلك الجامعات برفد سوق العمل باختصاصات موجودة فيه، وهو ما أدى إلى إغراق سوق العمل بعدد من الخريجين الذين بدؤوا بمزاحمة خريجي الجامعات الحكومية في كثير من المواقع، ولا سيما مع معدلات النجاح المرتفعة التي تمنحها تلك الجامعات لطلابها، عملا بسياسة الاستقطاب والترغيب بالتسجيل.
ومع كل انتقاد للجامعات الخاصة، يلجأ القائمون عليها إلى الدفاع عنها بحجة أن خصخصة التعليم نموذج أميركي، وكأن النموذج الأميركي وصفة سحرية أو كلام مقدس ينبغي احترامه وتطبيقه في كل مكان، متناسين أن دولا أكثر قدرة على الإدارة والإشراف والمحاسبة من بلداننا كالدول الأوروبية لا تأخذ بهذا النموذج لأنه يتنافى لا مع مبادئ العدالة الاجتماعية، وإنما مع سوق العمل لديها. هذا إن لم نذكر أن النظام الأميركي الذي يحتج به القائمون على الجامعات الخاصة له شروط صارمة فيما يتصل بأعداد الطلبة والأساتذة الجامعيين، فلكل جامعة أميركية خاصة كادرها التعليمي المستقل، أما النموذج السوري فلا يشترط توافر أساتذة على ملاك الجامعة إذ لا يوجد كادر لتلك الجامعات التي تعتمد على أساتذة الجامعات الحكومية ليدرّسوا فيها في أيام فراغهم. هذا يعني أن الجامعات الخاصة تعتمد على الجامعات الحكومية التي توفر لها الكفاءات من دون أن تقوم تلك الجامعات باستحداث كوادر تعليمية، أو بابتعاث طلبة من قبلها لاستكمال دراساتهم العليا في الماجستير والدكتوراه كما هو الشأن في النموذج الأميركي الذي تقدم فيه الجامعات الخاصة منحا للطلبة في كل المراحل الجامعية بغية استقطاب المتميزين. النموذج السوري نموذج يقوم على الفساد والنهب الواسع.
أصبح لدينا في العقدين الأخيرين جيش من خريجي الجامعات الخاصة يفتقر إلى أدنى مقومات التأهيل الأكاديمي
من ناحية مستوى الخريجين فالأمر كارثي حقيقة. قلنا إن واحدة من مشكلات التعليم الجامعي الحكومي انخفاض سوية المتخرجين، وكان من التسويغات التي قيلت في أثناء افتتاح الجامعات الخاصة أن سوية التعليم فيها ستكون أفضل، لأن أعداد الطلبة ستكون أقل، ولكن ما حدث هو العكس تماما، وهو يتطابق مع ما قلناه عن النموذج السوري الذي يشوّه كل شيء، فمستويات خريجي الجامعات الحكومية أفضل بما لا يقاس بمستويات خريجي الجامعات الخاصة. فقد تحولت القاعات الجامعية في الجامعات الخاصة إلى ما يشبه صفوف محو الأمية العلمية، فما يتلقاه خريج الهندسة من مادة علمية لا يتجاوز ما يتلقاه طالب هندسة في السنة الأولى في الجامعات الحكومية. ولا أقول هذا إلا من واقع التجربة. والحقيقة أن تسمية الجامعات الخاصة بهذا الاسم فيه تجنّ على اسم الجامعة ورمزيته في الأذهان، فما هو موجود على أرض الواقع هو دكاكين تبيع شهادات لطبقة لديها نهم لكل شيء: الثروة، التباهي بالعلم..إلخ.
هكذا أصبح لدينا في العقدين الأخيرين جيش من خريجي الجامعات الخاصة يفتقر إلى أدنى مقومات التأهيل الأكاديمي، وخصوصا بعد أن سمحت وزارة التعليم العالي التابعة للنظام بافتتاح كليات طبية في جامعات عاجزة عن تأهيل ممرض كفء.
هذا في مناطق النظام، أما في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام في الشمال السوري، فإن الحديث عن الجامعات الخاصة التي نمت كالفطر يندرج في إطار اللامعقول.