الثورة السورية وبذور "دوّار" الشمس

أبو الزهراء صديق حلبي من بغاة السلم الأهلي والتغيير باللقمة، واللقمة تأتي بعد السيف في صناعة الأمجاد والعزّ، اللقمة لها أيضا حدُّ بين الجد واللعب، ولهذا لا يصف زوجته إلا بالمعلمة، وهو يصحبني كلما وجد بضاعة مرتخصة بعرض تجاري في سلاسل المتاجر الألمانية، والرخصة التجارية في الألمانية اسمها "انكيبوت"، وتعادل "أوكازيون" الإنجليزية، وقد أقبلت بعض متاجر الألمان على التجارة بالأغذية السورية، فقد بلغ عدد السوريين نحو مليوني فكّ، فأصبحت تعرض الخبز السوري، الذي نسمّي واحده الرغيف، وتسميه العامة "الكماج"، والكماج لفظ تركي. واشترى صديق ثالث الشنكليش الألماني، وبشّرنا به وبسعره الرخيص، لكنه لم يجد له طعمًا، فأخبرناه أنه قد انخدع ببضاعة مزجاة، فما اشتراه ليس شنكليشًا وإنما هو طعام للعصافير، فالمتاجر الألمانية تعرض كرات من معاجين يابسات في أوعية شفافة طعامًا للطيور، وتشبه كرات الشنكليش، مغلفة بغشاوة من القماش الشبكي تعلّق بالشجر، كما تبيع المتاجر أعشاشًا خشبية حسنة البناء لطيور النمنمة.

يردّ الباحث السوري مؤنس البخاري اسم الشنكليش إلى قبيلة اسمها جنك، وكان جبن الشنكليش غذاءها الرئيس، وهي قبيلة استقرّت في المنطقة ما بين الساحل السوري وحلب، وصارت تصنع مؤونتها وتبيع الفائض.

السوريون يقبلون على بذور دوار الشمس بمقادير كبيرة في المنافي والمهاجر دفعًا للضجر

يقال إنّ قبيلة چَنگ تركيّة الأصل، ويقال إنّها مغولية، لكن الواقع أنّ قبيلة چَنگ هي إحدى قبائل شعب الناگا، وهو شعب يعود في الأصل إلى منطقة ناگالاند (ناجالاند) في أقصى شمال شرق الهند المعاصرة. وشعب الناگا من شعوب جَنُوب شرق آسيا الأصليّة، وتعداده اليوم نحوًا من ثلاثة ملايين إنسان. أما سبب شيوع بذور دوار الشمس في الأسمار السورية، فهو المقاومة والممانعة، وتفسيرها: مقاومة الضجر وممانعة الملل، ولعل رخصها سبب ثان في انتشارها، فبذور القرع عزيزة وغالية السعر، ويليها في المنزلة بين طبقات أطعمة الإمتاع والمؤانسة بذور البطيخ الأحمر، والسوريون يقبلون على بذور دوار الشمس بمقادير كبيرة في المنافي والمهاجر دفعًا للضجر، وقد انتبه تجّار شبكة سوبر ماركت "ليدل" إلى إقبال السوريين عليه فعرضوه وأغروا به، وعندما اشتريت دفعة من البذور قدرها خمسة كيلوات، وكانت المرة الأولى، سألتني المحاسبة "الكاشير"، وقد أعطشها الفضول، فقالت:

 يبدو أنك تتخذ طيورًا كثيرة؟

 فابتسمت عاجزًا عن التعبير من الدهشة، فأجاب عني أبو العفراء، وكان قد اشترى ضعف الكمية التي اشتريتها: نعم عندي ثلاثة ببغاوات، ونظر إليَّ مبتسمًا وهو يقصد معلمته وابنتيه، فهنَّ يدرسن مقادير وافرة من بذور دوار الشمس في السهرات والنوادي حتى يدخن السبع الدواخ. سألتني أمس محاسبة أخرى وقد ملأتُ عربتي بأكياس بذور عباد الشمس، في الغزوة الثانية، كان عليها "عنكبوت": مؤكد أنت سوري؟ ورفعت إبهامي وقلت: صحيح.

 فابتسمت وقالت: أنتم معشر السوريين تحبّون الطيور كثيرًا.

 فقلت في نفسي: ونعمة عين، صيتٌ حسن، فالطيور أقلُّ كلفة من الكلاب والهررة في الاقتناء والرعاية، ونمير أهلنا ونزداد كيل بعير.

وتذكرتُ رئيس تحرير صحيفة مصرية ضاق بي، وأبلغني أنه لا يريد تعبيرات أدبية في المقال الصحفي الذي أكتبه في صحيفته، وسخر مرة من اللب السوري، يقصد بذور دوار الشمس، فاهتبلت الفرصة واعتذرت من الكتابة في صحيفته، لأنه أعلى من شأن الترمس المصري على اللب السوري في أحد منشوراته! المنيّة ولا الدنيّة، هذه دعوى جاهلية.

وقلت للمحاسبة: إننا نأكلها، عند مشاهد الأفلام، وفي أثناء السفر في إيلاف رحلتي الشتاء والصيف، وهو عند السوريين مثل البوشار عند الأميركان، وإنَّ البوشار مكروه لشبهه باسم طاغيتنا، وله شبه آخر بالطاغية أنه ينتفش بالحرارة والتعذيب. فقالت إنها لم تكن تعرف أنّ البشر يتناولون بذور دوار الشمس، فأخبرتها بفوائد بذرة دوار الشمس، فهي تقي من أمراض القلب والشرايين، وتعيد توازن هرمونات الجسم، وتعين على نوائب الدهر، وتشفع في مكافحة السرطان والجمبري وتعزز صحة الحامل والجنين وصحة أبي الجنين وخال الجنين وعم الجنين وجيران الجنين، وتحسّن مستويات سكر الدم وملح الدم، وتعزز صحة الغدة الدرقية، ويمكن استعمال زيت البذرة لنضارة البشرة وتشنج العضلات ومكافحة الإمساك والإسهال، وتعين في تخفيف الوزن، ومستويات الطاقة وتعديل الكولسترول، والتئام القروح، ومعالجة حبِّ الشباب وغضون الشيخوخة وفطريات القدم..

ونسيت أن أقول: وتمنع سقوط النظام (وليس الشعر)، مع إنَّ اسمها موصول بالشمس رمز الحرية، فهي البذور الوحيدة التي تتطاول للشمس، بينما البذور الغالية الفاخرة مثل بذور القرع وبذور البطيخ مكنونة ومستعبدة وأسيرة، حتى إنَّ أحجية شهيرة قالت واصفة البطيخ: مدينة خضراء، أسوارها حمراء، سكانها عبيد، مفتاحها حديد.

لقد لقينا من دوار الشمس نصباً، غير أنّ بعضنا يشغل به زوجته عن نفسه فتنشغل به، فهن يكثرن الشكوى في المنافي.. والوطن!

سبب نكبتنا هو بذور دوار الشمس، ولعمري إنها لا تبرح ثمرتها التي صفت فيه صفوفا وسطورا دائرية، إلا بالعصي وليست مثل بذور البطيخ والقرع والكوسا. لقد لقينا من دوار الشمس نصباً، غير أنّ بعضنا يشغل به زوجته عن نفسه فتنشغل به، فهن يكثرن الشكوى في المنافي.. والوطن!

تعجّب كثيرون من بيانات الثوار السوريين، فهي منسوخة عن أدبيات الإعلام السوري، ببغاوية، فهم يرفعون أسمى آيات التبريك للشهداء، ويقفون صفًا واحدًا مع المجلس الوطني السوري، والمجلس الوطني يمثلهم، ويبدو أنهم كانوا يكثرون من أكل بذور دوار الشمس.

 بذور دوار الشمس كبتاغون حلال!

 ربطت قصص الأولاد المصورة الواردة من مصانع ديزني للخيال القوةَ الخارقة بالطعام، "فبندق" في قصص ميكي كان يأكل الفول السوداني، و"باباي" كان يأكل السبانخ، ولعلها إرهاصات ديزني لاند المبكرة بالطعام النبات، الذي تبشّر به القوى العالمية الحاكمة رفقا بالحيوانات والطغاة، أمّا السوريون فسقطوا في دوامات الشمس.

سألتني المحاسبة الجديدة التي قتلها الفضول عن سبب شراء السوريين لبذور دوار الشمس بكثرة، فقلت: نحن نتناوله لأنه مضاد للاكتئاب.

 دوّار الشمس هو وطننا البديل، لأنّ السكان العبيد أضاعوا مفتاح المدينة الخضراء الحديد.