الثورات.. حتمية تاريخية

2022.07.27 | 07:11 دمشق

الثورات.. حتمية تاريخية
+A
حجم الخط
-A

مرة أخرى تعود احتجاجات الشعوب إلى صدارة المشهد، لا يقتصر الوضع اليوم على البلاد العربية فحسب بل تشمل بلداناً مختلفة، وقد تنذر هذه التحركات باندلاع بركان ظل خامداً سنوات إلا أن غضبه اليوم قد يفوق التوقعات المحتملة والقدرة على الإطفاء.

لم تسلم تونس التي قطفت ثمار ثورتها بشكل أبكر من قريناتها من الدول العربية من الاحتجاج اليوم، بعد سلسلة من الاضطرابات أججتها سيطرة الرئيس سعيد على السلطة وانقلابه على الحكم، واستمرت تلك الاحتجاجات على الرغم من الوعود المستمرة بتحقيق الاستقرار للدولة والرخاء للمواطنين، الذي تُوج أخيراً بمشروع دستور مفترض تحكّم فيه "سعيد" ومنح نفسه صلاحيات كاملة، معدلاً بذلك كثيراً من المواد المفصلية التي لم يرجع في تعديلها إلى اللجنة المختصة بالتعديل ما أثار حفيظة الحقوقيين والمواطنين واستنكارهم.

وبغض النظر عن القضية التونسية أو عن ثورات الربيع العربي التي أفل نجمها الإعلامي وبات الحديث بخصوصها ضرباً من الحديث مع الجدران لأنه لم يعد بأي نفع، يبدو أن رقعة الاحتجاجات انتقلت إلى بقع جغرافية أكثر كثافة سكانية وربما أكثر أهمية على الصعيد السياسي، إذ تمر سيريلانكا في هذه الآونة بأزمة اقتصادية عميقة وغير مسبوقة مثل كثير من الدول العربية وغيرها، غير أن هذه الاحتجاجات قد نتج عنها مواجهات عنيفة أدت إلى استقالة رئيسها بعد هروبه من البلاد، وبحسب ما ذكرت كريستينا غورغيفا رئيسة صندوق النقد الدولي فإن دولاً أخرى قد تكون عرضة لمشكلات شبيهة.

شهدت بعض الدول مثل إيطاليا احتجاجات بسبب أزمة الطاقة، وفي النمسا مظاهرات بسبب ارتفاع الأسعار أما في هنغاريا فقد تظاهر الآلاف في العاصمة المجرية بودابست ضد إصلاح ضريبي تنوي الحكومة إقراره

وفي التصريح نفسه أكدت أن الدول التي لديها حجم ديون مرتفع ولا تواجه ذلك بسياسات اقتصادية ناجعة قد تتعرض لمصير مشابه، خاصة بعد تسجيل انسحاب رؤوس الأموال الاستثمارية وهروبها من تلك الدول، معتبرة أن ما حدث في سيريلانكا مجرد شرارة قد تنتقل إلى غيرها.

وفي مضارب القارة الأوروبية أي بما يبعد عنهم مسافات قليلة شهدت بعض الدول مثل إيطاليا احتجاجات بسبب أزمة الطاقة، وفي النمسا مظاهرات بسبب ارتفاع الأسعار أما في هنغاريا فقد تظاهر الآلاف في العاصمة المجرية بودابست ضد إصلاح ضريبي تنوي الحكومة إقراره، وقد بدأت الاحتجاجات وهي الأولى منذ إعادة انتخاب الزعيم المحافظ في إبريل/نيسان بعد تبني البرلمان إصلاحاً ضريبياً قال محتجون إنه سيزيد الضرائب على مئات الآلاف من صغار التجار.

يبدو للوهلة الأولى أن سبب الاحتجاجات في سيريلانكا والبيرو وهنغاريا وإيطاليا اقتصادي بحت وهو أمر واقعي إلى حد كبير، لكنه يكشف في طياته عجزاً سياسياً حقيقياً في سد الفجوات بين الحكومات والشعب ويدل على سوء تفاهم مستمر بين الطرفين علاوة على أن الأمور مؤخراً صارت أسوأ، وانكشف وجه السلطات بوصفهم مسؤولين رئيسيين عن تلك الفجوة لأنهم لم يتخذوا إجراءات مناسبة للعمل على ردمها ولا فكروا بتطبيق سياسات لتلافي الأزمات المرتقبة التي قد تنبثق عنها.

ولئن كانت الانتفاضات التي اندلعت في تونس وبقية الدول العربية في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة مفاجئة وغير متوقعة بسبب عدم وجود مؤشرات اقتصادية تبرر ذلك، ــــــــ إذ إن معدلات الرفاه كانت أعلى مما هي عليه الآن والأهم ارتفاع معدل التضخم والبطالة والأزمات الناتجة عن الهجرة والنزوح لأكثر من بلاد في السنوات الأخيرة ـــــــــ، إلا أن الأمر يختلف اليوم ذلك أن استياء الشعوب لا يبدو أنه يستند على أسباب اقتصادية فحسب، بل يدخل في عمق العلاقة بين الشعب والسلطة وتفاصيلها ويبين حالة الخذلان التي بدأت الشعوب بتلمسها ورغبتهم بحل العقد الذي نظم تلك العلاقة، لأنه لم يعد من المناسب الاستمرار فيه على هذا الشكل والرغبة في بناء علاقة قانونية جديدة تضمن لهم قدر أكبر من الحقوق والحريات ولا تمنح الحكومات سلطات أكبر وتضعها في مواجهة مساءلة حقيقية.

لقد أصبحت الشعوب تشعر أنها بمعزل عن السلطات التي وضعت حياتها بين أيديها وأصبحت الحقوق والواجبات مشابهة لعقد إذعان بين الطرفين ما يثبت أن العلاقة غير متساوية، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالخيبة والخذلان لأن الطبقة الحاكمة أخفقت في تلبية تطلعات الطبقات الاجتماعية التي تسعى لتحسين مستواها الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى أن مثل هذه الاحتجاجات تحمل في طياتها الرغبة في المشاركة السياسية الحقيقية والفعالة وعدم الاعتماد على وجودهم على أنهم آلات انتخابية فحسب لإيصال السياسيين إلى سدة السلطة وهذا في أحسن الأحوال في البلاد الديمقراطية.

يبدو أن العقد الاجتماعي القديم لم يعد يحقق الأهداف المرجوة منه، وأن الشعوب بدأت تضيق ذرعاً وتخرج للمطالبة بعقد جديد تصبح فيه على قدم المساواة مع السلطة

يقول علي شريعتي إن "الزهد نوع من الاستحمار، لأنه يأمر الإنسان أن يترك حقوقه الاجتماعية، وحاجاته الطبيعية جانباً، ويقطع حبل الأمل منها جميعاً! ويبقي الإنسان مرتبطاً بحاجات بسيطة جداً، لا تتجاوز حاجات الحيوان"، وهذا بالضبط ما أصبح إنسان هذا العصر يدركه في الوقت الذي بدأ يتسول فيه فرصة عمل لتأمين مسكن ومأكل ومشرب، أي أنه يحارب من أجل الوصول إلى مرحلة العبودية التي أصبحت حلماً بعيد المنال بسبب تحالف السلطات مع رؤوس الأموال، وربما هذا ما عجل في حل عرى العلاقة بين الطرفين بعد أن أصبح رضا المواطنين عن الحكومات في تدهور.

قد تتداخل المعطيات الاقتصادية مع الرغبات السياسية التي بدأت الشعوب تشعر أنها بمعزل عنها وغير ذات رأي أو غير مؤثرة، وفي كل الحالات يبدو أن العقد الاجتماعي القديم لم يعد يحقق الأهداف المرجوة منه، وأن الشعوب بدأت تضيق ذرعاً وتخرج للمطالبة بعقد جديد تصبح فيه على قدم المساواة مع السلطة مع الاحتفاظ بالهامش الأكبر من الحريات، وإذا كان المجتمع الدولي قد اعتقد مخطئاً أنه قد استطاع الالتفاف على ثورات الشعوب العربية واستطاع حرفها عن مسارها فهو اليوم في مواجهة استحقاق سياسي كبير قد لا يتمكن من احتوائه ويجعله مضطراً إلى التغيير الحقيقي.