"التمثيل ثاني أصعب مهنة في العالم بعد عمال المناجم". يردد الممثلون السوريون هذه المقولة في اللقاءات التلفزيونية والندوات الثقافية وفي أروقة المعاهد الفنية، فالكثير منهم يؤمنون بهذه الخرافة التي تعظّم من شأن مهنتهم ويتعاملون معها كآية مقدسة تتمتع بالصدقية والموضوعية، إذ يدعي بعض منهم أنها خلاصة دراسة في علم الاجتماع!
هذه الخرافة الشائعة لا يمكن أخذها على محمل الجد بكل تأكيد؛ فمن ذا الذي يرى بأن الوقوف أمام الكاميرات أو على خشبة المسرح لمعايشة المعاناة النفسية للشخصيات الدرامية (التي نادراً ما تتحقق) أصعب من ممارسة المهن الشاقة والخطيرة، كأعمال البناء والملاحة البحرية والمهن الحربية وغيرها؟ وهل يمكن لأي شخص عاقل بالعالم أن يتخيل بأن الممثلين يحسدون عمال الباطون الذين يتعلقون فوق الهياكل الحديدية الضخمة ويخاطرون بحياتهم لتأمين قوت يومهم؟
توريث المهنة
وإذا كان التمثيل بالفعل ثاني أصعب مهنة في العالم، فلماذا يورّث الممثلون السوريون المهنة لأبنائهم، ويفعلون المستحيل ويخاطرون بسمعتهم الفنية أحياناً في سبيل دعمهم؟ إن الأمر يزداد عبثية عندما تسمع هذه المقولة من الفنانين السوريين الذين ورثوا المهنة عن آبائهم ومروا بطريق معبد نحو الشهرة، وخصوصاً عندما يبالغ هؤلاء في التنظير، كما فعل سليمان رزق (ابن المخرج السوري يوسف رزق) الذي كرر المقولة إياها في مقابلة متلفزة نُشرت أخيراً ولم يكتف بترديد العبارة الكليشية، بل أضاف إليها تعليقاً مفاده أن التمثيل أصعب حتى من مهنة عمال المناجم!
حقيقةً، إذا ما أردنا الحديث عن صعوبات التمثيل كمهنة في سورياـ فإنها تتعلق بالدرجة الأولى بالآليات الملتوية في صناعة النجوم، وتتجسد بشبكة العلاقات المنغلقة التي يضطر الفنان الموهوب أن يواجهها في سبيل الوصول إلى الجمهور واكتساب النجومية أو المكانة التي تؤهله لامتلاك القاعدة الشعبية، وأن ينافس أبناء الفنانين الذين يخطفون منهم الفرض، لأن آباء بعض منهم قد يضعون تاريخهم الفني على المحك في سبيل دعمهم وترسيخ حضورهم. لعل أيمن رضا المثال الأبرز على ذلك في الوقت الحالي، فهو الممثل الذي لم يوفر أي جهد لتثبيت أقدام ابنه، همام رضا، في الدراما السورية، لتؤدي هذه الجهود إلى تدمير مسيرته الفنية وتشويه صورته؛ فكيف حدث ذلك؟
أيمن رضا.. طريق الصعود والانحدار
في تسعينيات القرن الماضي، سطع نجم أيمن رضا واستطاع من خلال مشاركته بالأعمال الكوميدية الناجحة في تلك الفترة، من أمثال: سلسلة "عائلة النجوم" و"جميل وهناء" و"بطل من هذا الزمان" وغيرها، أن يكرّس اسمه ويرتقي إلى أعلى منزلة في الكوميديا السورية، ليفرض بعدئذ شروطه ويبدأ بمشروعه الفني الخاص برفقة شريكه في النجاح، باسم ياخور، في بداية الألفية الجديدة؛ لتكون النتيجة مشروع سلسلة "بقعة ضوء".
وصلت سلسلة "بقعة الضوء" هذه السنة إلى الجزء الخامس عشر، رغم التغيرات الكبيرة التي طرأت على هويات أصحاب المشروع وتوجهات العمل؛ إذ تخلى باسم ياخور وأيمن رضا في وقتٍ لاحق عن السلسلة من دون أن يتسبب ذلك بتعطيل عجلتها، ليبدأ كل منهما على حدة بالعمل على مشاريع فنية منفصلة؛ ليحمل أيمن رضا دور البطولة الأوحد في مسلسل كوميدي لأول مرة مع شخصية "مرزوق" عام 2004، ويبدأ بتكريس اسمه بوصفه فناناً شاملاً مع تقديم الأغاني إلى جانب التمثيل، ولتتحول أغاني "أبو ليلى" إلى الأغاني الشعبية السورية الأكثر شيوعاً بعد عرض مسلسل "أبو جانتي".
الهزة الأولى التي خلخلت النسق التصاعدي الذي كان يسير عليه أيمن رضا، حدثت عندما فشل مسلسل "سيت كاز" عام 2012، لكن هذه النقطة السوداء لم تؤثر بشكل فعلي على مكانة أيمن رضا في عالم الكوميديا السورية، ليبقى اسمه على رأس قائمة نجوم الكوميديا رغم فشله بحمل مسلسل كوميدي وحده.
وفي عام 2018، بدأ أيمن رضا مسلسل السقوط في حرب التصريحات الإعلامية، حيث أدى الخلاف بينه وبين شريكه السابق، باسم ياخور، إلى هز صورته. أحد أسباب الخلاف التي أعلن عنها أيمن رضا، كان مشاركة ابنه همام في المشروع الذي بناه باسم ياخور على أنقاض "بقعة ضوء"، أي مسلسل "ببساطة".
ليبدأ بعدئذ رضا بسلسلة من المشاريع الفنية التي كان يهدف من خلالها بشكل واضح إلى تكريس اسم ابنه في عالم الدراما؛ فأدار شركة إنتاج وقدم لابنه دوراً محورياً في أول مسلسل ينتجه، "الكندوش"، الذي فشل فيه همام رضا بإثبات نفسه ولاقى انتقادات حادة، تضمنت بعض التلميحات إلى دور أبيه السلبي في تصديره. وبعدئذ عاد هذه السنة ليرمم أنقاض مسلسل "بقعة ضوء"، ويشارك بالجزء الخامس عشر ويقدم العديد من اللوحات برفقة ابنه.
همام أيمن رضا و"بقعة ضوء 15".. فشل مركّب
الحلقة الأولى من الجزء الجديد من "بقعة ضوء" كانت عبارة عن درس في قيادة السيارات، يجمع أيمن رضا بابنه همام، يعلمه فيه كل التصرفات اللاأخلاقية التي يمارسها السائقون السوريون. حلقة فارغة خالية من المعاني العميقة ولا تولّد الضحك، لكنها للمفارقة تبدو تجسيداً للدروس والخبرات التي يورثها أيمن رضا لابنه في عالم الفن، فهو يعلمه "المطاحشة" والتكسير، لتكون خلاصة الدرس الأول أن الثقة هي من تصنعه سائقاً، وليس هناك أي أهمية لمهارات القيادة. وتنتهي الحلقة بحادث سير، يرتكبه همام بعد لحظات من مغادرة معلمه السيارة؛ وكأن الأب وابنه يجسدان من دون وعي مصير مسيرة همام بعد أن يزول أثر أيمن رضا ويتخلى عنه.
لكن بنظرة موضوعية على أداء همام رضا، يجب أن نشير إلى أن مستواه ليس أسوأ بكثير ممن يشاركونه اللوحات الفنية والمسلسلات التي يقدمها، بل إنه ببعض الأعمال يبدو مقبولاً وقادراً على أداء شخصية ثانوية بشكل جيد، كما هو الحال في مسلسل "الفرسان الثلاثة"؛ لكن مشلكة همام رضا أنه محدود الإمكانيات، وأن بعض الأدوار التي يقدمها لا تتناسب مع إمكانياته المحدودة. وربما لو كان قد دخل إلى عالم الدراما من دون كل هذا الصخب وفي حدود قدراته الحالية، لكان استطاع أن يكتسب مع الوقت المكانة التي يستحقها وينجح في تطوير أدواته مع تراكم الخبرات. لكن أيمن رضا حكم على ابنه بالفشل عندما سلط عليه بقعة الضوء قبل الأوان.