يقف عدد من كبار السن إلى جانب بعضهم بعضا قرب "نيو قاسيون مول" في العاصمة دمشق، تحت أشعة الشمس الحارقة، معلنين المنافسة على زوّار المول من أصحاب السيارات، لتقديم خدمات تنظيف السيارات وغالباً من دون تحديد مبلغ معيّن، قائلين لزبائنهم: "شو بيطلع من خاطرك".
أحد كبار السن والذي تجاوز عمره الـ65، وهو أحد النازحين من مخيم اليرموك جنوبي دمشق، يغسل أي سيارة مقابل 10 آلاف ليرة سوريّة فقط، علماً أن كلفة غسيلها في المغسلة تصل إلى 40 ألف ليرة على أقل تقدير.
يركن درّاجته الهوائية القديمة، ويضع كرتونة مكتوب عليها بخط اليد "غسيل سيارات"، برفقته تجهيزات متواضعة مثل مقشطة وقطع قماشية ووعاء جهّزه بقص الجزء العلوي من عبوة زيت نباتي ليضع فيه الماء، وقطعة كرتون ليجلس عليها عند التعب، هذا هو رأس مال هذا المٌسن وغيره ممن يطلبون الرزق في سنٍّ متقدم هناك.
يصرّ هذا المسن رغم تعبه على تقديم خدمته على أحسن وجه مقابل 10 آلاف ليرة سورية فقط، وهي لا تكفي لشراء سندويشة فلافل، لكنه يؤكّد أن هذا المبلغ يكفيه شر مدّ يده في الشارع والتسوّل.
لا يتحدث كثيراً، ولا يريد الإفصاح عن حياته أو اسمه أو لقبه، ربما لأن "الزمن جار عليه" كما يقول، لكنه أكّد أن لديه ثلاث بنات واحدة في الجامعة وتعمل في صالون للحلاقة واثنتان متزوجتان خارج سوريا، ولديه شاب أعزب يعمل في مطعم.
يشير هذا المشهد -الذي رصده موقع تلفزيون سوريا- لـ غاسيلي السيارات من كبار السن، إلى حجم انهيار سوق العمل في دمشق وعموم مناطق سيطرة النظام السوري، وتراجع القدرة الشرائية التي باتت تدفع جميع أفراد العائلة للعمل كباراً وصغاراً من أجل تأمين لقمة العيش، التي باتت تكلف نحو 12 مليون ليرة شهرياً للعائلة، وفق دراسة لـ صحيفة "قاسيون" نشرتها، مطلع العام الجاري.
وباتت مشاهد عمل كبار السن في شركات التنظيف أو توصيل الطلبات في المطاعم أو في سيارات الأجرة (تكسي)، أو في العتالة والبناء، مشاهد معتادة في دمشق وتشير إلى أنّ كبار السن في سوريا عادوا إلى العمل بعد تقاعدهم، وذلك بسبب ضيق الحال وعدم كفاية الراتب التقاعدي لأيام.
صندوق الأمم المتحدة للسكان يعرّف كبار السن بالأشخاص الذين تبدأ أعمارهم من الـ60 عاماً، وبحسب تقرير صادر عن الصندوق، بداية العام 2024، فإنه ﻻ ﺗﺘﻮاﻓﺮ ﺑﻴﺎﻧﺎت ﻋﻦ اﻟﻔﻘﺮ ﺑﻴﻦ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ في سوريا، حيث ﻳﻌﻤﻞ 7% ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل الذين ﺗﺘﺮاوح أﻋﻤﺎرﻫﻢ ﺑﻴﻦ 60 و64 ﻋﺎماً.
ويشير التقرير إلى أن "الاستراتيجية الوطنية في سوريا لا تتناول حق كبار السن ﻓﻲ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻤﻌﺎش اﻟﺘﻘاعدي، ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻤكنوا ﻣﻦ عيش ﺣﻴﺎة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ وﻛﺮﻳﻤﺔ ﻋﻠﻰ قدم اﻟﻤﺴﺎواة ﻣﻊ اﻵﺧﺮﻳﻦ".
ومعظم من التقاهم موقع تلفزيون سوريا من كبار السن العاملين في شوارع دمشق، يعانون أمراضاً مزمنة مثل القلب أو الضغط والسكر والربو، وهم بحاجة إلى أدوية وعناية خاصة.
ويقول صندوق الأمم المتحدة في تقريره، إنّ معظم البيانات الخاصة بكبار السن في سوريا غير متاحة، ويرى أن الأمراض غير المعدية تمثل 80% من سبب إعاقة الرجال المسنين، حيث يعد مرض السكري وأمراض الكلى والأعضاء الحسية من الأسباب الرئيسية للإعاقة، ورغم ذلك ما زالوا يعملون.
ويشدّد التقرير على أنّ "الاستراتيجية الوطنية في سوريا تفتقر إلى أحكام الرعاية الصحية والاجتماعية المتكاملة رغم إقرارها بضرورة تأمين الخدمات الصحية عالية الجودة، في وقت لا تتوافر فيه بيانات عن عدد كبار السن المصابين بالسكر والضغط أو أولئك المشمولين بالتأمين الصحي".
وسبق أن أطلقت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) و"الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان" التابعة للنظام، الاستراتيجية الوطنية لرعاية كبار السن وحمايتهم، في كانون الأول 2023، وهي الاستراتيجية التي ينتقدها التقرير.
يشار إلى أنّ سوق العمل في سوريا يعاني من نقص حاد في اليد العاملة إثر هجرة الشباب هرباً من الملاحقات الأمنية أو الخدمة الإلزامية، أو بحثاً عن حياة أفضل مادية واجتماعياً، وهذا الاستنزاف أدى إلى تفاقم عمل المسنين والأطفال في مهن مختلفة ولو كانت لا تناسبهم.