التفكير والكتابة شرٌ مُطلق لدى معظم الأحزاب الكردية

2023.04.14 | 06:59 دمشق

التفكير والكتّابة شرٌ مُطلق لدى مُعظم الأحزاب الكردية
+A
حجم الخط
-A

اضطررت لحضور أمسية ثقافية في مدينة القامشلي، تحت ضغط وإلحاح صديق مغترب، كان يحمل قبل أن ينصدم بما جرى في الأمسية، مجموعة من الأفكار عن دور الهياكل السياسية في تطوير الحالة الكتابية والثقافية في الوسط الكردي، ما يجعله تحت حمولة كبيرة من الإعجاب والانبهار بحجم "التطور الثقافي" الذي تشهده المدينة، أو سائر المدن الكردية الأخرى، على حدِّ اعتقاده. واختصارا لما جرى في تلك الندوة إن جاز التعبير والوصف على أنها ندوة، لم أتفاجأ بأسلوب بعض القيادات السياسية الحزبية المتشنجة تجاه المُحاضر، وإصرارهم على "المُنكرات" التي يقوم بها معشر الكتّاب الكرد تجاه الحركة السياسية، والإدارة الذاتية، والمجلس الكردي، وغيرها من القوى السياسية التي تنظر لنفسها، نظرة المنزهة عن النقد، وكأنها نقطة عسكرية يُمنع الاقتراب منها والتصوير. ولشدة التهجم من قبل أكثر من قيادي حزبي على كافة أنواع وحقول الكتّابة من صحافة وثقافة وأبحاث ومقالات رأي، خامر العديد من الحضور أن العالم كله سينهار، بل إن القضية الكردية في سوريا تتجه للاندثار والانتهاء حالاً لو لم يستجب الحضور للمطلب الرئيسي المتمثل في منع الكتابات الناقدة، وتقييد حركة الترجمات خاصة المتعلقة بمواضيع الحريات والديمقراطية، بحجة أنها لا تتناسب وحالة كرد سوريا الحالية، وبدأ بكيل التهم والمسبات لكتّاب من أمثال "علي الوردي، وميشيل فوكو، وبعض الكتّاب العرب والكرد المعاصرين" ووصفهم ببؤر الفساد وإن ما ينتجونه يحتوي على تجاوزاتٍ أخلاقية خطيرة.

قسم ليس بالقليل من القيادات الكردية هم أبرز الخصوم الأزليين للثقافة التي يؤكدون أهميتها في كل فرصة تسنح لهم وبحماسة شديدة للبهرجة ليس إلا

لم تكن تلك الأمسية حدثاً عابراً، إنما عقدة فكرية دائمة، نشأت نتيجة لمعطيات ومقدمات كبيرة، ورغم أن معظم الأحزاب الكردية تُبدي ظاهرياً تفاعلاً إيجابياً مع الكتّاب والمثقفين لديها، لكنها تضمر كثيرا من الخوف والكراهية لأصحاب الأقلام والكفاءات، فقسم ليس بالقليل من القيادات الكردية هم أبرز الخصوم الأزليين للثقافة التي يؤكدون أهميتها في كل فرصة تسنح لهم وبحماسة شديدة للبهرجة ليس إلا، لأن هدفهم الأساسي التحكم بالهويّة الثقافية للأحزاب والحركات والمنطقة كلها، لكن المشكلة هي في فقدانهم للإمكانيات ولملكات الكتابة والتأليف والبحث العلمي، ويكفي أن يكون المنتسب للأحزاب الكردية حاملاً لشهادة عليا، حتى يتحول إلى الشر المطلق.

تعيش الكتابة في الوسط الكردي عالمين متناقضين متحاربين، فهي بالنسبة لمن يقبض على القرار السياسي مصدراً للخطر ضمن التنظيمات الحزبية، وتشكل وسيلة لكشف أكاذيب السلطة -والكل له سلطة ضمن نطاق سيطرته وحدودها- ووعودها التّي لن تُنفذها. لكنها بالنسبة للكاتب وسيلة للبوح والحديث عما يجول في خاطره، وما يُخالجه، وكأنه هم أُزيح عن قلبه، ينطلق الكاتبُ الملتزم بقضايا أمته وقومه من فعل الكتابة نفسها كقضية، يُحول الكاتب هموم الناس ومن حوله إلى شخصياتٍ تحاكي الواقع، فتغدو قصة تعني الشيء الكثير للناس، في حين أنها تُعبر عن درجة الانفعالات للقابضين على القرار، هؤلاء الذين لن يفهموا ما معنى أن تتحول الكتابةُ إلى علاج للجروح والندبات. كما شهد الوسط الكردي عددا كبيرا من محطات الإذاعة، بعضها اندثر وآخر بقي، فالتمويل يرفع من يشاء ويُنهي من يرغب، ذات مرة سمعت قيادياً في أحد الأحزاب الكردية يقول في الراديو "الكتابة جيدة لكنها يجب أن تكون هادئة ولا تقترب من السلطة فنحن في حالة حرب" كم رغبت القول له "عليك أن تقرأ قبل أن تقيم الكتابة، فمن لا يشعر بمأساة من حوله لا يُمكنه الكتابة ولا تمثيل المجتمع المحلي".

في كثير من الأحيان يُشفق الكتّاب الكرد على حالهم، فالتركيبة الهشّة للمجتمع الكردي بسبب الاقتصار على العمل الحزبي التقليدي الكلاسيكي فحسب، منعت من كشف الوجه الحقيقي للحياة لدينا. ذلك اللاستقرار تحول لحافز للعديد من الكرد للإصرار على الكتابة؛ فالكاتب الكردي محروم، مُحارب، مقموع، يُهمل من قبل السلطة والحزب، حتّى ينطوي على نفسه، وهي اللحظة العظمى في حياة تلك الهياكل، لكنها لحظة جميلة ومفرحة للكتّاب أنفسهم للاستمرار في التعبير واصطياد مشاعر الأهالي وتحويلها لنصٍ واضح، يحمل القراء على اختلاف مشاربهم على الشعور وكأنه يعبر عنهم جميعاً.

ما إن تصدر الكرد المشهد السياسي في مناطقهم حتى تحولوا إلى ثعابين خطيرة تلدغ أقلام المبدعين، ما بين الاعتقال أو حملات التشهير والمحاربة السياسية

كثيراً ما اختفى الكتّاب في زنازين سرية، منهم من خرج ناسياً كيف يكتب، ومنهم من أصبح كارهاً للكتّابة، لكن كل النماذج ما إن تتخطى الحدود الجغرافية، حتّى تعود مجدداً للكتابة عن الأحزاب والسلطة وعنفها وفسادها، وعن قضايانا المصيرية وأحلامنا. رغم ذلك يسري شعورٌ غامض لدى الكتّاب في كل اعتقالٍ لزميلهم، يفقدون الإحساس؛ فما إن تصدر الكرد المشهد السياسي في مناطقهم حتى تحولوا إلى ثعابين خطيرة تلدغ أقلام المبدعين، ما بين الاعتقال أو حملات التشهير والمحاربة السياسية. وذات مرة توفي كاتبٌ مرموق، خدم الأدب والقضية والثقافة الكردية بكل قوته، كتب في  مجالات ومواضيع تخص الشأن العام، بقي وحيداً منفياً، لم يُشارك أحد من تلك القيادات في جنازته، استاء معشر الكتّاب وشعروا بوصمة العار التي تُلاحق تلك النوعية من القيادات الفاشلة التي تلقت الخبر وكأنه شيء عادي، هؤلاء أنفسهم تداركوا الأمر بعد فضحهم وهتكهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليسارعوا للمشاركة في تأبين الراحل في أربعينيته، لكنهم حتّى في ذلك أثبتوا فشلهم، ولا زلت أذكر أن من ألقى كلمة قال إنها في رثاء الراحل، فشل في قول اسمه بشكل سليم وقدم معلومات مغلوطة عن سيرة حياته، ولم يكلف نفسه عناء البحث عن أبسط معلومة عنه.

قصارى القول: أعلى درجات الاستقرار والمصالحة النفسية والذاتية، هي أن يتمكن أحدٌ ما من نقل أوجاع الناس على شكل كلمات ومرادفات متلاحقة عبر السوشيال ميديا إلى عموم الناس، وهي أكثر اللحظات رُعبًا لدى معظم الأحزاب والسلطة وعلاقاتها الزبائنية. لكن الغريب والأكثر خطورة أن تلجأ الحركات والأحزاب السياسية المعارضة لتلك السلطة، لفعل المعارضة على الكتابة نفسها، وكأن بها تتقاطع المصالح والتوجهات؛ فالغالبية لا تُحبذ سماع صوتٍ مغاير لهم.