لم يكن ليخطر ببالي مطلقا عندما خرجت مع صغيرتي بعد ظهر السبت الماضي أن أعود لأجد باب شقتنا مخلوعا وبيتنا مسروقا.
كانت ملابس ابنتي وملابسنا مبعثرة على الأرض، حالة من الفوضى عمت المكان الذي تركته منذ حوالي ستين دقيقة، ولم يكن الرعب بسبب الفوضى والسرقة فقط، بل لأنني لم أكن أتخيل أنه يمكن لعصابة ما أن تداهم المنزل وتتمكن من سرقته وتخريبه في هذا الزمن القياسي، ونحن في فرنسا!
في ثوان خطرت ببالي كل صور التعفيش التي قام بها الجيش الأسدي وميليشياته، وقد اقتحموا المنازل واستباحوا حرمة البيوت ببربرية، كسروا الأبواب وسرقوا دون خجل ممتلكات ليست لهم، ومقتنيات دفع أصحابها دم قلوبهم حرفيا ثمنا لها.
في بلد كبلدنا سوريا، يتكبد المرء شقاء وعناء كي يأوي مع عائلته إلى بيت له حيطان،
في سوريا اليوم ملايين البيوت المهدمة والمحطمة، وملايين البيوت التي سرقت وعفشت قبل أن يتم تحطيمها للتغطية على الجريمة، هذا يعني بلغة الأرقام مئات الألوف من قطاع الطرق الذين يعيشون على هذه الرقعة من الأرض.
ويحتاج الكثير من الزمن والتعب كي يؤثث هذا المنزل، في بلد يعيش أكثر من ثمانين بالمائة من سكانه تحت خط الفقر، وبالطبع فإن قتل النفس أشد إجراما من التعفيش، لكنهما في النهاية ينتميان إلى متلازمة التوحش ذاتها التي زرعها ونماها النظام تحت عينيه وفي صفوف مؤيديه الأشد إجراما وصفوة مريديه والمستفيدين والمفسدين فيه.
في سوريا اليوم ملايين البيوت المهدمة والمحطمة، وملايين البيوت التي سرقت وعفشت قبل أن يتم تحطيمها للتغطية على الجريمة، هذا يعني بلغة الأرقام مئات الألوف من قطاع الطرق الذين يعيشون على هذه الرقعة من الأرض، التي كان اسمها يوما سوريا، ويستحيل علينا اليوم اعتبارها وطنا مع هذا الكم والنفوذ لقطاع طرقها.
وإذا كان النظام قد استمر حتى هذه اللحظة فإن جريمة سرقة البيوت وتعفيشها ومن ثم تغيير ملكيتها جرائم لا يجب السكوت عنها، ويجب توثيقها بالقدر ذاته مع جرائم الحرب الأخرى التي ارتكبها.
وفيما صدرت قوانين لشرعنة تغيير ملكية البيوت بالتزامن مع التهجير القسري فإن معركة دولية تستوجب الفتح لكل من ترك منزلا أو عقارا في سوريا وضع النظام وأعوانه يده عليه أو هم بصدد وضع اليد عليه.
التعفيش وسرقة البيوت ليست سوى عقوبة ما بعد الحرب التي يريد بها النظام القصاص من معارضيه والناس البسطاء الذين خرجوا عليه، الناس الذين لم يكونوا يملكون سوى هذه الحيطان ليعلقوا عليها صور أحبائهم، لكنها حيطان في بلد مستباح لم تستطع حمايتهم من السجن والتعذيب ولم تستطع حماية فلذات أكبادهم من الذهاب إلى التعذيب حتى الموت حتى الحيطان في بلادنا هي ملك للآمر بأمر الله، ولعصابته، سواء توهمت أنك استأجرتها أو حتى امتلكتها!
وفي هذا السياق لا تعدو السرقة بعد المجزرة سوى إعادة بسط "سلطة" النظام على البشر قبل الحجر، والانتقام من كل من يعترض على هذا، ولنا في السويداء التي رفضت بيع مقتنيات بيوت أختها درعا، خير مثال على عقاب الحاكم- العصابة!
دار بذهني وأنا المتألمة لسرقة منزلي، أنه خير لمن لم يروا بيوتهم بعد سرقتها،
لم يعد ممكنا اعتبار سوريا بلدا ذا حدود، بل بات فعليا مزرعة يتحكم بها آل الأسد، ومن يريد الخروج أو الدخول إليها عليه تقديم فروض الطاعة والولاء دون أن يكون آمنا على نفسه طيلة بقائه فيها.
ففي ذاك المنظر ألم لفقد الذكريات وفقد الإحساس بالأمان لا يعرفه إلا من جربه، لكني أعلم أن إدراك الفقد لا يحتاج لمشاهدة تثبته، لقد فقدنا، جميع من ترك مقتنياته هناك وخرج، ومن يعيش هناك مع مقتنياته يعيش في احتمالات الفقد المعقدة المؤلمة كل لحظة!
لم يعد ممكنا اعتبار سوريا بلدا ذا حدود، بل بات فعليا مزرعة يتحكم بها آل الأسد، ومن يريد الخروج أو الدخول إليها عليه تقديم فروض الطاعة والولاء دون أن يكون آمنا على نفسه طيلة بقائه فيها، حتى أوفى أولئك المؤيدين لتلك العصابة!
ابتسمت حين أخبروني في قسم الشرطة أن الشكوك كلها تحوم حول عصابة من "الغجر" قامت بثلاثين سرقة في مدينتنا في وضح النهار!
وقلت لنفسي، من سوى الغجر يمتلكون هذه الهمجية والاستخفاف بالقوانين، ومن يستطيع أن يكون أكثر بربرية من عصابة آل الأسد ليهدم ويسرق ملايين البيوت وعلى مرأى من العالم كله؟