التطبيع مع الأسد بدلاً من محاسبته

2023.05.30 | 07:02 دمشق

آخر تحديث: 30.05.2023 | 07:02 دمشق

التطبيع مع الأسد بدلاً من محاسبته
+A
حجم الخط
-A

بالنظر لما جرى يوم الجمعة 19 أيار في جدة من ترحيب بالطاغية بشار الأسد، بمسعى إعادته إلى "حظيرة" الأنظمة العربية بعد اثني عشر عاماً من تعليق عضويته، وترك المقعد شاغراً بدلالة لا تخلو من الخبث، وتنكرها لما دعت إليه هذه "الجامعة" في بداية الثورة وخلال مسيرة مواجهتها الدموية من النظام، بما فيها استخدام الأسلحة الكيمياوية، تبدو اليوم مطالبتها وإدانتها للنظام الأسدي، عندما طالبت بالمساءلة عن هجمات نظامه بالأسلحة الكيماوية، كما وصفت نظامه بأنه مجرم بحق "شعبه"، لا معنى لها بعد أن رحب القادة العرب بالأسد بحرارة وبعودته إلى جامعة الدول العربية، واستمتاعهم بمحاضرته "القيّمة" عن الفروق بين القلب والأحضان.

يتساءل السوريون هل تغيرت الأسباب التي دفعتهم إلى الثورة، وبالتالي لمقاطعة الجامعة العربية لنظام الأسد، أم أنها تعمقت وزادت حدتها، فنظام الأسد هو من قتل مئات الآلاف منهم من خلال أساليب وحشية شملت التعذيب الممنهج للمعتقلين والمختطفين بقصد القتل حيث لا يزال منهم حتى اليوم نحو (150) ألف معتقل، ومارس الحصار والتجويع والقصف المتعمد للمدنيين واستخدام الأسلحة الكيماوية، ولا يزال حتى اليوم مستمر في سلوكه. والأمر الثاني هو فرار نحو نصف سكان البلاد وتوزعهم بين الخيام ودول الجوار، والإعادة تعني بالنسبة لهم تعريضهم للاعتقال وبالتالي الموت بشكل أو بآخر، وهناك كثير من الحالات الموثقة للعائدين الذين تعرضوا لانتهاكات مروعة تشمل الاغتصاب والتعذيب والاعتقال والتجنيد القسري والاختفاء على أيدي النظام، ناهيك عن أن ضياع أملاكهم وسرقتها "قانونياً" من قبل ميليشيات الأسد وإيران.

وإذا أضفنا ما أحدثته المشاركة الإيرانية الواسعة من خلال ميليشياتها والتدخل الروسي إلى ما سبق، وما جرى من نهب لثروات سوريا وحتى شراء أراضيها، وتحويل الأسد البلاد إلى مكان لإنتاج المخدرات التي تدر عليه وعلى أركانه وميليشياته مليارات الدولارات، ناهيك عن ممارسة الفساد والإفساد، مما جعل السوريين يعيشون بأسوأ حال، بل وصلوا إلى حد المجاعة (90 في المئة بحالة الفقر المدقع)، وليس خط الفقر المتعارف عليه دولياً (2 دولار للفرد يومياً) يظهر لنا أن نظام الأسد غير قادر كما أنه غير مستعد لتعزيز الاستقرار في سوريا.

كل ما دفع السوريين إلى الثورة لا يزال قائماً، بل زادت حدته، ناهيك عن تسليم البلاد لروسيا وإيران ونهبها بالكامل

وأخيراً، ورغم الحال الفاجعي الذي وصل إليه السوريون وثورتهم، بعد التدخلات الكبيرة في البلاد وإبعادهم عن المشاركة بصنع مصيرهم، فمن حقهم أن يرفضوا أن يقرر مصيرهم النظام نفسه، وهم من قدّم كثيرا من الضحايا للخلاص منه، وتجلى ذلك الرفض في الاحتجاجات التي عمّت الشمال السوري مؤخراً التي رفضت التطبيع مع نظام الأسد، إضافة لمشاعر الرفض والغضب والإحباط من الجامعة تلك، متسائلين عن أي إمكانية لمحاسبة هذا الطاغية، وهل سيواجه المساءلة والعدالة بعد كل ما ارتكبه بحقهم من جرائم، أم أنه سيعود كما يدعي "منتصراً" على شعبه، يتفاخر بعودة العرب إلى "القلب"، بدلاً من عودته إلى "الحضن"، دافعاً السوريين إلى حالة جديدة من الانفجار. والأمر ببساطة أن كل ما دفع السوريين إلى الثورة لا يزال قائماً، بل زادت حدته، ناهيك عن تسليم البلاد لروسيا وإيران ونهبها بالكامل.  

على الرغم من أن تحركات الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع نظام الأسد تجعل من الصعب مساءلة النظام عن الجرائم التي ارتكبها كونها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن لا تزال هناك دواع للأمل في المساءلة، تعتمد على رفض جزء كبير من السوريين للعودة إلى العيش تحت حكم الأسد، والتحركات الأوروبية في هذا المجال، إضافة للقوانين التي أصدرتها الإدارة الأميركية سابقا، والتي تعمل على إصدارها حالياً، وجميعها تعوق عملية التطبيع، وتعرّض من يتعامل مع الأسد لخطر العقوبات.

على الجانب المهم، وهو رفض جزء كبير من السوريين للعيش تحت حكم الأسد، فهم لا يوفرون مناسبة إلا ويعبرون عن ذلك، سواء الذين يعيشون في الشمال، رغم ظروفهم القاسية، لكنهم لا يتخيلون ذلك، إضافة لمن يعيشون في الدول المجاورة، فعودتهم تعادل اعتقالهم، وبالتالي قتلهم، كما جرت مع كثير من الذين عادوا. وثاني تلك الوسائل هي إطار الولاية القضائية العالمية، التي تمكن المحاكم المحلية من محاكمة الجرائم الفظيعة المرتكبة خارج حدودها كونها جرائم تهدد المجتمع الدولي ككل. ويمكن للدول التي تطبق هذا النظام أن توجه الاتهامات ضد نظام الأسد، وأكثر من ذلك أن تقوم بتوقيف من يسافر من أركانه في ظل موجة التطبيع هذه، وحتى محاكمتهم غيابياً، مثلما جرى من رفع دعاوى في فرنسا ضد علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود بسبب ارتكابهم جرائم بحق السوريين عموماً والمعتقلين خصوصاً.

إن مصافحة الأسد بدلاً من محاسبته يمثل خيانة كبيرة للسوريين الذين لا يزالون يعانون من إجرام نظامه، ويرسل إشارة إلى كل المستبدين في العالم بأنهم يمكنهم قتل الكثيرين وارتكاب مختلف أنواع الجرائم بحق شعوبهم

وثالث تلك الوسائل، هي القوانين التي أصدرتها الإدارات الأميركية بدءًا من قانون قيصر وصولاً إلى مشروع قانون مكافحة التطبيع الحالي المنوي إصداره، حيث تمثل هذه القوانين وسائل ردع وعقاب لمن يتعامل مع نظام الأسد، إضافة لمن يسعى للتطبيع معه. ومع أن الإدارة الأميركية لم تتعامل حتى اليوم بحزم مع مسألة التطبيع، لكنها تمتلك الأدوات والوسائل وخاصة مع تلك القوانين لممارسة ضغوط على الدول التي تسعى للتطبيع، ومشروع قانون مكافحة المخدرات التي تعد تهديداً للأمن الأميركي، إضافة لما يشكله من مشكلات مقلقة للدول المجاورة، وخاصة العربية، التي دفع بعضها إلى عرض تقديم رشاوى للنظام لمنعها بدلاً من الضغط عليه وتهديده.

إن مصافحة الأسد بدلاً من محاسبته يمثل خيانة كبيرة للسوريين الذين لا يزالون يعانون من إجرام نظامه، ويرسل إشارة إلى كل المستبدين في العالم بأنهم يمكنهم قتل كثيرين وارتكاب مختلف أنواع الجرائم بحق شعوبهم من دون أن يتعرضوا للمساءلة، وهو ما يشكل استهتاراً واضحاً بالقانون الدولي، ويدفع الشعوب حتى إلى الشك بالقيم الديمقراطية التي تقوم عليها كثير من أنظمة العالم. إن تصور بعض الدول العربية أنها يمكن أن تحقق جزءاً من أجندتها ومصالحها السياسية في ظل استمرار الأسد وتوغل إيران على حساب حقوق السوريين في الحياة يشكل ضربة كبرى لحلمهم ووهماً طفولياً، كما أنهم يعطون الأسد الضوء الأخضر لمواصلة ارتكاب الجرائم من دون عقاب.

يشير التطبيع مع الأسد إلى فشل الدول في مساءلته ومحاكمته وتقديم نظامه إلى العدالة، مع أن جرائمه واضحة، وإمكانية المساءلة متاحة. لقد طال انتظار العدالة على الفظائع التي عانى منها ملايين السوريين، الذين يأملون بأن تساعد الجهود المتضافرة التي تبذلها بعض الدول الغربية للسعي لتحقيق العدالة في مواجهة الاتجاه السائد في التطبيع. وهكذا، اعتبارا من الآن، فإن الاختبار الحقيقي للتطبيع مع الأسد هو مدى ابتعاده عن إيران أولاً، وهو ما يناقض الوقائع وطموحات إيران الإقليمية في البلاد، المتمثلة في إضعاف البلاد وتفتيتها.