رغم وقوف إسرائيل مع إيران بحربها على العراق، أملاً باستنزاف القوّتين، وخاصة العراق كعمق عربي لسوريا التي تحتل إسرائيل أرضها؛ ورغم غضّها الطرف عن تدخل حزب الله -أداة إيران في لبنان- لدعم نظام الأسد؛ ورغم التناغم الإسرو-إيراني الخفي في الإطباق على المنطقة العربية، فإن لإسرائيل مشروعها ولإيران مشروعها في المنطقة، حيث يلتقي المشروعان في نقاط لمصلحتيهما، ويفترقان ويتناقضان عند مفاصل خطورتها بلا حدود أو ضفاف.
استقوت إسرائيل على كل محيطها بدعم غربي غير محدود، ولكنها استقرت أكثر بكونها القوة النووية الوحيدة في المنطقة. ومن هنا، شكّل ملف إيران النووي هاجساً حقيقياً مقلقاً لإسرائيل، جنّدت ضده العالم الغربي، وخاصة أميركا. لقد كانت كل لحظة تطوير في ذلك الملف لحظات استنفار في تل أبيب.
لم تشفِ غليل إسرائيل كل الاتفاقات الغربية-الإيرانية حول الملف، ليبقى الخيار العسكري الأكثر رواجاً، رغم التكتم عليه والمواربة بذكره في العقيدة الإسرائيلية، التي ما فتئت تبحث عن ظهير داعم لأي عمل عسكري، ربما تقوم به.
في الأشهر القليلة الماضية، ومع توترات داخلية إسرائيلية غير مسبوقة تعكس وتتجاوز الخلافات الحزبية والعقائدية، ترتفع في الكواليس درجة حرارة الملف، ويزداد الحديث عن صيف ساخن في المنطقة؛ ربما تكون زيارة بايدن الأخيرة إلى إسرائيل، وإعطاؤه تعهداً قطعياً حول الملف إحدى إشاراته. وهذا ما دفع السعودية ربما لاستعجال اتفاق بينها وبين إيران لغايات تخصها.
في هذا السياق بالذات تأتي موجات التهدئة في المنطقة على الضفة الأخرى، والتي قد تكتوي بنار تلوح في الأفق. وفي هذا السياق بالذات يمكن تفسير موجة التطبيع الصادمة مع منظومة استبدادية مارقة في دمشق. وفي هذا السياق بالذات تأتي زيارة رئيس إيران إلى سوريا، بعد أن كانت قد أُجّلَت أربع مرات. وكل ذلك أتى كموجات ارتداد معاكسة تستشعر الخطر الداهم.
إن سحب فتيل التوترات في تلك الأمكنة غير مسموح بالمفهوم وبالفعل الإيراني، حتى ولو توفرت الرغبة الأسدية والعربية
فإذا كانت دول الخليج العربي المجاور لإيران -وتحديداً السعودية- قد حيّدت أنفسها من أي توتر عسكري إيراني انتقامي كامن؛ إلا أن أذرع إيران في سوريا ولبنان المجاورة لإسرائيل غير مسموح أن يتم تحييدها بالعقيدة الإيرانية؛ وكميات الأسلحة الموجودة فيها لا بد أن يُحسَب حسابها في أي معادلة مواجهة؛ ومن هنا استهدافها الدائم من قبل إسرائيل. إن سحب فتيل التوترات في تلك الأمكنة غير مسموح بالمفهوم وبالفعل الإيراني، حتى ولو توفرت الرغبة الأسدية والعربية. ومن هنا عملية التطبيع مع منظومة إجرامية بائسة وبلا آفاق.
إن كل ما قاله وفعله "إبراهيم رئيسي" من تطويب سوريا باسم إيران بكفّة، وما وُضِعَ إيرانياً على لسان بشار الأسد حول وقوف سوريا مع إيران في حربها مع العراق بكفّة أخرى
ومن هنا أيضاً، لم يأتِ إبراهيم رئيسي، رئيس إيران، إلى سوريا ليوقف التطبيع مع نظام دمشق؛ ولا أتى ليطوّب آلاف الهكتارات مقابل ديون إيران على سوريا؛ فإيران التي تغلغلت وتغوّلت في سوريا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يصعب اقتلاعها أو الفصم بين منظومة الأسد ومنظومة الملالي. ولم يأتِ "رئيسي" ليدنّس الأرض السورية، ويهين علناً السلطة الحاكمة في دمشق بشرعنة امتلاكه وإدارته لمقومات الحياة السورية، بل ليرسل لكل ما يعنيه الأمر أكان إسرائيلياً أو أميركياً أو روسياً أو عربياً أن هذا المكان، ومَن يسيطر عليه شكلياً، وما عليه من شعب، بتصرف دولة "ولاية الفقيه" وحرسها الثوري؛ وما هو إلا قاعدة إيرانية على "الحدود الإسرائيلية".
إن كل ما قاله وفعله "إبراهيم رئيسي" من تطويب سوريا باسم إيران بكفّة، وما وُضِعَ إيرانياً على لسان بشار الأسد حول وقوف سوريا مع إيران في حربها مع العراق بكفّة أخرى. فهذا ذِكرٌ واستذكار يأتي في سياق التوتر الكامن الخطير الذي تحوم ظلاله فوق المنطقة. وهو إعلان يشبه تماماً سحب ودفع الروس لبشار الأسد، ليعلن تحالفه معهم في حربهم على أوكرانيا. وهذا ما يجعل التطبيع أو العودة للجامعة العربية مسألة شكلية بلا قيمة، لا تعفي ولا تنجي ما يقع تحت سيطرته الشكلية من الوقوع في الجيب والإرادة والتخطيط الإيراني، وبالتالي، تحمُّل تبعات ذلك.
لن يفيد بشار الأسد التطبيع، ولا العودة إلى الجامعة العربية؛ ولن ينجيه أو يخلصه من دم سوريا ودمارها، أو من ضغوطات قوانين الكبتاغون وقيصر والكيماوي أي اصطفافات أو تحالفات أو بهلوانيات؛ والأهم لا نجاة له من الاحتراق بنار الملالي، إذا ما استمر التصاقه بهم، أو فكّر بالانفصال عنهم.