اشتهرت الفنانة السورية ديانا الحديد بمنحوتاتها وأعمالها الفنية الثنائية البعد التي تحيل موادَّ مثل البرونز والفولاذ والزجاج والخشب إلى أشكال معبرة مستوحاة من الكون والخرائط والتراث والتاريخ، هذه الفنانة التي عاشت في بروكلين بالولايات المتحدة طوال السنين الست عشرة الماضية أصبحت شاهدة على التحول الذي شهدته تلك المنطقة خلال تلك السنين، ولهذا تعبر في أعمالها عن الزمن ومروره، وكيف يخلف ذلك أثره على نفس الإنسان وروح المكان.
تقسم ديانا وقتها اليوم بين بروكلين ونيويورك، حيث اشترت بيتاً لها هناك في عام 2019، وتعمل الآن على إنشاء استديو تابع لبيتها، بما أنها غزيرة بإنتاجها، كما تشارك بصفة دائمة في المركز الثقافي غير الربحي المقام في بروكلين والذي خُصِّص للتشجيع على إدخال الورق في الفن المعاصر. وخلال شهر تشرين الثاني المقبل، ستُطلق الفنانة أول معارضها تحت عنوان: المرأة والبرونز والأشياء الخطيرة، بنيويورك، حيث ستعرض ما أنتجته من أعمال خلال السنوات الخمس الماضية في مجال الفن التشكيلي. وهذا المعرض الذي سيقام بين 2 تشرين الثاني و22 كانون الأول، سيقدم مختارات من الأعمال الجديدة التي تشمل سلسلة من الأشكال التصويرية التي تعلق على الجدران، ومنحوتات تشبه التمائم. وإلى جانب هذا المعرض، ستقدم ديانا أعمالها في معرض NGV Triennial الذي سيفتتح في الثالث من كانون الأول المقبل.
قام فريق من الصحفيين بزيارة استديو ديانا في بروكلين، وهو عبارة عن مساحة مغطاة بالألوان والأصبغة، وبقايا المنحوتات، وكثير من المواد الأخرى، وأجرى مع ديانا مقابلة عن الأفكار والتجارب التي تتسرب إلى أحدث أعمالها.
الهزيمة الطويلة (من أعمال ديانا الحديد)
اللغة كأداة للإدراك
تتحدث ديانا عما يميز أعمالها، فتقول: "أفكر دوماً بالمواد التي أتعامل معها منذ أيام المدرسة، إذ هنالك تشكيلات أساسية تشبه عالمنا المعاصر بشكله الخام. ولكن لدي خطوط رسمية أو مبعثها اللاوعي بقيت موجودة في أعمالي، إذ كثيراً ما أشتغل بالخطوط والمستويات، وأعمل على سكب المواد أو تنقيطها لتعبر عن الوقت. وهنالك رموز واستعارات لأفكار تعنيني وتهمّ المجتمع الذي نعيش فيه".
وعندما سئلت عن تلك الرموز والاستعارات، ردت ديانا بالقول: "هنالك طرق محددة نتحرك من خلالها لنشكل العالم ونُقولبه، فنحن نستخدم الخشب والمعادن والفولاذ والمواد المعاصرة، إلا أن عملية التصنيع قديمة قدم التاريخ، ولهذا ترجع كل أعمالي لتاريخ الفنون، ولسرديات تاريخية، ولأفكار مجازية وأمثال مأثورة، أي أني أصعد بفني إلى سابع سماء ثم أهبط إلى سابع أرض. بيد أننا ندرك تلك الاستعارات على أنها شيء ثقافي أو معرفي، وأرى بأنها أشياء معرفية، ولهذا جعلت عنوان معرضي: المرأة والبرونز وأشياء خطيرة، إذ استوحيت العنوان من كتاب نشر للمرة الأولى في عام 1987، تحت عنوان: المرأة والنار وأشياء خطيرة لمؤلفه جورج لاكوف، وهو فيلسوف أميركي وباحث لغوي، وقد استقى عنوان كتابه من لهجة أصلية موجودة في أستراليا، وفي ذلك إشارة إلى كلمة تصف النساء والنار والماء وحيوانات معينة وأشياء خطيرة، وهذا ما يعبر عن تحول هائل في تفكيرنا تجاه العالم واللغة التي نستخدمها تتصل بكل ذلك بل تعززه وتقويه. فمن الاستعارات التي بحث فيها لاكوف فكرة المجهول التي تعتبر علوية والمعلوم التي تعتبر سفلية، أي أن للغة دوراً في طريقة تعرفنا إلى جسدنا وفي الطريقة التي يقوم من خلالها المجتمع بخلق روابط وصلات.
مجسم لديانا الحديد بعنوان: الخارج موجود في الداخل (2003)
من الناحية اللغوية، تعتمد الخبرات البصرية للبشر على لغتهم الأصلية واللغات المكتوبة الأخرى التي يعرفونها أو لم يسمعوا بها، وهذا ما يخلق هفوات وحالات قصور عند النقل والترجمة من لغة إلى أخرى، وقد يطول ذلك أيضاً الأمور الروحانية، إلا أن ديانا ترى بأن البشر يتحلَّون بدقة متناهية في هذا السياق، وتضيف: "إن هذا المعرض ينطوي على بعض العناصر الدينية، وبالعودة إلى موضوع الكتاب الذي يعبر عني كثيراً لأنه يتطرق للأمور المختلفة بين الثقافات والعقول، أجد أننا نحاول على الدوام أن نقيم حالة تواصل، وأن نقترب من شيء معين ونفهمه. فلقد ولدت في سوريا، ولغتي الأم هي اللغة العربية، وترعرعت في أوهايو، التي تتسم بأنها مسيحية للغاية، لكنها منطقة جميلة وودودة. وغالباً ما أنظر إلى أعمال تعود للعصور الوسطى، سواء الإسلامية أو المسيحية منها، ولهذا أعود بالإشارات التي أعبر عنها في أعمالي لفترة الخمسينيات من القرن السادس عشر، وأكتشف بأن كل الطرق تقودني إلى تلك الفترة. أما الآن بعد أن أصبح لدي طفل، ولم أعد تلك الفنانة الصاعدة، فأصبحت تلك الأمور تمثلني. وبانتقالي إلى نيويورك تعلمت كثيراً عن النباتات، وعن الجذور، وعن الأشجار، وصرت أستمع للموسيقا العربية باستمرار. وبما أني مهاجرة، لذا أصبحت الحياة بالنسبة لي بمنزلة حالة تفاوض وبحث عن الأمور الشخصية التي بوسعي أن أقدمها للعامة، وعن تاريخي الذي بإمكاني أن أتمسك به، فقد رجعت إلى سوريا عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، ولهذا صرت أفكر بذلك الجزء المفقود من الحوار، وكيف يمكن للغة أن تحتوي على أفكار شاعرية وثقافية لا يمكن أن تُفهم بدونها، ولهذا تمثلت تلك الأفكار في أعمالي.
الجذور وتجربة المهاجر
بالحديث عن الجذور بالمعنى المجازي والحرفي، نكتشف بأن هنالك كثيرا من الأمور المرتبطة بالأرض والجذور في أعمال ديانا، ولكن هل تفكر ديانا بما تعنيه إحالة اختفاء الأصل أو غيابه؟ وإجابة عن هذا السؤال، ردت بالقول: "تمثل المساحات أشياء غير مادية بالنسبة لي، ولهذا أمضيت فترة وأنا أدقق وأبحث بالمنمنمات الإسلامية والألمانية، فبدت لي كأشياء تحدثني عن البخت والطالع والمستقبل، إذ بوسع الناس أن يقرؤوا مستقبلهم في تلك الأعمال. لكنني أتعامل مع الورق والبرونز من أجل معرضي المقبل، ولم يسبق لي أن تعاملت مع الورق من قبل".
بالنسبة لمرحلة التخطيط للإنتاج، تخبرنا ديانا بأنها تخطط لصنع منحوتة بشكل عرضي وبسيط للغاية، إذ تفكر بأن لديها عملا ستقدمه في معرض ويجب أن يكون عبارة عن قطعة صغيرة مصنوعة من البرونز، وهذا ما قدمته من خلال منحوتتها: جذور الياسمين، تلك الزهرة السورية التي تثير لواعج الشوق والحنين في النفوس. وهنا تحدثنا ديانا كيف خطرت لها تلك الفكرة فتقول: "لدى جميع عماتي نبتة ياسمين، وكانت لدي عدة أصص من الياسمين لكنها ماتت جميعها، ولهذا أخذت ما تبقى منها من الأصيص، أي الجذور، وغمرتها بالشمع ثم علقتها، إذ لدي كثير من النباتات المرتبطة بجذورها، ورأيت كيف تمتد الجذور داخل الأصيص وتلتف عند حوافه لتنتقل إلى غيره، ومن هنا خطرت ببالي تلك الاستعارة التي شبهت من خلالها تجربة الجذر بتجربة المهاجر، لأن الجذور التي وصلت إلى الحافة والتفت تعلمت كيف تنمو في أرض جديدة، وتربة جديدة، وهذا ما أحس به في أعماقي".
بيد أن الجذور يمكن أن تحتجز الإنسان أو أن تطلقه في حال زرعت في أرض أخرى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على بساطة الأفكار التي تحملها ديانا والتي تعبر عنها بفنها بطريقة جذابة وعفوية، ولهذا لا بد للمرء أن يتوقع الكثير من معرضها المقبل، لأنها تعتمد على مصادر عديدة في الفن التشكيلي الذي تقدمه، وعن معرضها المقبل تقول ديانا: "في أعمالي التي ستُعرَض خيوطٌ تاريخية مشتركة، منها أسطورة ميدوزا المستوحاة من الميثيولوجيا الإغريقية، وبالعودة إلى فكرة المجهول العلوي والمعلوم السفلي، يمكن للمعرض أن يوصف بأنه غامض، أو أنه ينتمي للعالم السفلي، إذ سأعرض فيه عملاً ضخم الحجم ويشتمل على تفاصيل كثيرة، وسيكون هذا العمل هو الأساسي في المعرض، وذلك لأنه يرتفع نحو السماء، كما سأعرض عملاً معلقاً على السقف، ليعبر عن حالة الصعود والارتقاء، أي تلك السردية التي لم يسبق لأحد أن شرحها".
يذكر أن الفنانة السورية ديانا حديد من مواليد حلب 1981، وهي فنانة معاصرة تقدم تماثيل ولوحات ورسومات بالاعتماد على وسائط متعددة، ولقد ساعدتها تجربتها في الهجرة إلى الولايات المتحدة في أن تصبح فنانة تشكيلية مهمة، إذ حصلت على بكالوريوس الفنون الجميلة في مجال النحت من جامعة كينت بأوهايو عام 2007، وفازت بجائزة وزارة الخارجية الأميركية في جامعة فيرجينيا عام 2005، وأقامت العديد من المعارض الفنية. تستوحي ديانا أفكار أعمالها من القرون الماضية وتستمدها من الأدب والتاريخ والعمارة والفيزياء وتسعى دوماً لاكتشاف كل جديد من خلال منحوتاتها.
المصدر: Artnet News