التخلص من العقلية السائدة.. ما تحتاجه المجتمعات العربية حالياً

2022.11.09 | 07:30 دمشق

التخلص من العقلية السائدة.. ما تحتاجه المجتمعات العربية حاليا
+A
حجم الخط
-A

مني الربيع العربي بخسارات فادحة في كل البلدان التي تفجر فيها، لم يسلم بلد واحد من الهزيمة. والهزيمة لا تعني فقط الحروب والصراعات واللجوء والتشرد والموت المعمم، كما حصل في غير بلد من بلدان الربيع العربي، مثلما لا يعني الانتصار مقتل أو رحيل أو استقالة زعيم أو حكومة. انتصار حدث ضخم كحدث الربيع العربي، بثقله الشعبي المحلي والتعاطف والتأييد الدولي العام والرسمي الذي حظي به، وبعدالة القضايا التي حملها وطالب بها ثواره، وبحجم التضحيات المهولة التي قدمها شبابه وشاباته، انتصاره يعني أولا تغيير بنية المنظومات التي حكمت عقودا طويلة وأنتجت ما أنتجته من فقر وفساد وقمع ومحسوبيات وتخلف وإقصاء وتجاهل وتكميم أفواه وغيره مما ابتليت به بلادنا العربية سنوات طويلة جدا كان يجب أن تنتهي بحدث ضخم كحدث الربيع العربي، بوصفه تعبيرا عن حالة الاحتقان والغضب المتراكم الذي كان لا بد وأن ينفجر في لحظة ما ومع أية حادثة. كان البوعزيزي التونسي هو الخلخلة التي فجرت البركان الهائل الذي رأينا. هل كانت حادثة البوعزيزي سببا يستحق كل ما حدث؟ حسن، هي كانت الشرارة فقط كما أسلفنا، أما الاستحقاق فهو ما اختزن في الوعي الجمعي العربي من الغضب والرفض المكتوم على مدى زمن طويل جدا.

والحال إن ما فعلته المنظومة التي حكمت عالمنا العربي بذهنيتها الاستبدادية لا يمكن حصر خرابه فقط بالمنحى السياسي والاقتصادي، إذ إن ما حصل على المستويات الاجتماعية هو الأكثر والأشد خطورة. قسمت المنظومة الحاكمة المجتمعات انقساما طبقيا حادا، وعملت شيئا فشيئا على تدمير بنية الطبقة الوسطى، وفتحت المجالات كلها لمشعوذين متنكرين تحت اسم دعاة وعلماء دين، وتركت لهم مهمة توجيه الرأي العام، وإبعاده عن كل ما يمكنه أن ينمي إحساسه بالمواطنة وبهويته الوطنية التي تمنحه حقوقا جاهدت الأنظمة طويلا لتمنعها عنه. وبالفعل تم التحكم بدفة الوعي الجمعي العربي وتحويلها نحو التحليل والتحريم في توافه الأفعال، وتم تغيير القيم المجتمعية بالكامل، فبعد أن كانت قيمة كالأخلاق والشرف تشمل كل شيء بدءا من العلاقات الأسرية الخاصة وانتهاء بالفضاء العام متضمنة الرشوة والسرقة الفساد والبلطجة والتنمر والعنصرية والاستعلاء، انحصرت الأخلاق في العلاقة مع المرأة، أو بالأصح مع جسد المرأة فقط، هكذا ظهرت لدينا آلاف الفتاوى المتعلقة بالمرأة بوصفها جسدا للمتعة والغواية، هكذا أيضا تم تغييب نصف المجتمع عن الفعل العام بذريعة الشرف وقيم الأسرة والدين، وتم تغييب النصف الآخر عبر تنصيبه وصيا على حماية الشرف والدين. بينما كانت المنظومة الحاكمة تواصل تسلطها وتشكيل بطانة حامية لها، بطانة اجتماعية واقتصادية وعسكرية وأمنية، بطانة تعيش حياة أخرى تماما وتملك قيما لا تشبه قيم مجتمعها السائدة بحال من الأحوال. في الوقت الذي كانت فيه غالبية فئات المجتمع الأخرى تعيش حياة البؤس والتجهيل والأمية والتخلف، حياة مغلفة بستارة الإيمان التي عمل مشعوذو الدين على تثبيتها جيدا كلما انزاحت قليلا كاشفة بعض الحقيقة.

لطالما كانت المؤسسة الدينية في خدمة الاستبداد ولطالما كانت متحالفة معه، ولم تستطع الثورات العربية الفكاك من هذه السيطرة

جاء حدث الربيع العربي محمولا على أكتاف شباب من بقايا الطبقة الوسطى العربية منضما إليهم ملايين من أفراد الشعب الآخرين. بينما أحجمت ملايين عن الالتحاق بهم خوفا من أي تغيير أو حرصا على مكتسبات واهية منحتها لهم الأنظمة كي تضمن وقوفهم معها دائما. ما جعل من شروخ بنية المجتمعات العربية أكثر وضوحا وتعددا.

الميل الوجداني للجموع الثائرة كان ميلا محافظا أو متدينا بالعموم، وهو ما سهل سيطرة الثورات المضادة عبر الترويج أن ما يحدث هو جهاد في سبيل الله ولإعادة قيم الإسلام الكفيلة وحدها في تحسين شروط الحياة والتغيير. ولأنه لطالما كانت المؤسسة الدينية في خدمة الاستبداد ولطالما كانت متحالفة معه، ولم تستطع الثورات العربية الفكاك من هذه السيطرة، خصوصا بعد أن تم الفتك بالرعيل الأول من ثوار الربيع العربي بالقتل أو الاعتقال أو التهجير أو التهميش أو إساءة السمعة الخ. هكذا استطاعت الثورات المضادة السيطرة وحدث ما حدث من مآلات مروعة في الربيع العربي، حتى في الدول التي تخلصت من رؤوس النظام. لكن بنية الاستبداد كانت أكثر تجذرا مما تخيل الجميع، تبدلت الوجوه فقط بينما ازدادت البنية شراسة وتغولا في القمع في غير دولة، وازداد التمسك بالهويات ما قبل الوطنية (قبلية ودينية ومذهبية وعائلية الخ) في دول أخرى. النتيجة هي ما وصلنا إليه حاليا من خراب لم تشهد له هذه المنطقة مثيلا حتى في أيام الاحتلالات العسكرية والسياسية القديمة.

لكن في التفكير بما حدث تبدو المآلات منطقية في ظل غياب نخبة معارضة وطنية ومستقلة وبعيدة عن أجندات دينية أو خارجية. فقد عملت عقود الاستبداد على تجريف المجتمعات العربية من حركتها الطبيعية المدنية والمستقلة، كما عملت على تجريفها من النخبوية السياسية المستقلة التي يمكنها أن تقود أي حراك مجتمعي نحو الأمان، مثلما عملت أيضا على تدمير الطبقة المتوسطة بقيمها الحاملة لأية عملية تغيير ممكنة. هذا التدمير والتجريف الممنهج للمجتمعات كان كفيلا بأن يجعل من مآل أي حراك تغييري سياسي هو المآل الحالي الذي أسقط صوابية الربيع العربي السياسية بدلا من إسقاط بنيان الأنظمة الحاكمة. حيث ساد التخبط السياسي الذي كشف بدوره تخبط من تصدروا واجهة المعارضة السياسية وظهرت مخلفات الاستبداد في بنية المعارضة: فساد ومحسوبيات وانتماء لأيديولوجيات وهويات لا وطنية، والأهم هو إعادة دورة الإقصاء التي مارستها الأنظمة، وكأن المستبد ينتج مستبدا أصغر يشبهه.

ما تحتاجه الشعوب العربية حاليا هو استعادة النخب المثقفة لدورها الطبيعي التنويري بدلا من الانجرار لشعبوية لا تخدم سوى الاستبداد

هل تغيرت الصورة خلال أكثر من عشر سنوات من عمر الربيع العربي؟ في الحقيقة تبدو الصورة أكثر قتامة ويبدو تخبط المعارضات العربية أكثر وضوحا، ويبدو تحكم الاستبداد أشد ضراوة، ويبدو إعادة تدويره ودعمه من المجتمع الدولي أكثر جدية، مثلما يبدو البديل عنه أكثر ندرة مع استعادته لأساليب جديدة من القمع والاستفراد بالسلطة وتكميم كل صوت معترض وإعادة الشعوب إلى حالة اللهث وراء لقمة العيش، خصوصا في ظل أزمات اقتصادية وسياسية كارثية محلية وعالمية. مع هذه الأوضاع المأساوية فإن ما تحتاجه الشعوب العربية اليوم ليس دعوات جديدة لحراكات غير محسوبة النتائج أو لانتفاضات ستؤدي إلى المزيد من القمع في كل مكان من هذه المنطقة المنكوبة. ما تحتاجه الشعوب العربية حاليا هو استعادة النخب المثقفة لدورها الطبيعي التنويري بدلا من الانجرار لشعبوية لا تخدم سوى الاستبداد، واستعادة النخبة السياسية لقدرتها على التنظيم وخلق بدائل مناسبة تقطع الطريق على أي حراك مضاد مثلما تقطع الطريق على مطلب المجتمع الدولي بالبديل المناسب، ما تحتاجه شعوبنا اليوم هو الخروج من الفوضى الحالية وهذا لا يتم دون عمل النخب على خلق كوادر سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية وعسكرية بديلة، تؤمن بالحداثة التي سبقنا إليها العالم بخطوات مهولة السرعة، وتنبذ الرجعية في المجتمع والفكر والدولة والنظم المسيرة لحياة الأفراد، وتضع الدين في مكانه المناسب في المعابد والكنائس والمساجد ودور العبادة والنفوس، لا في التحالف مع السياسة ولا في التدخل في حياة البشر. ما تحتاجه مجتمعاتنا بعد الكوارث التي حصلت لها هو تأمل التاريخ البشري والثورات البشرية الكبرى التي غيرت في مسارات التاريخ. وإلا فنحن ذاهبون من فوضى إلى أخرى ولن نترك للأجيال القادمة سوى خرائب كبرى كفيلة بأن تمحي هذه المنطقة بكل محاملها التاريخية عن وجه الكوكب.