لعله من البديهي أن الفروقات الكبيرة بين المواقف الرسمية للحكومات والأنظمة وبين المواقف الشعبية بخصوص الحرب الإسرائيلية على غزة بات واضحاً وجلياً، وليست قضية فلسطين هي الوحيدة من بين القضايا الإنسانية الكبرى التي ينحاز إليها الموقف الشعبي العالمي باعتبارها تتجاوز معالم السياسة وتدخل في صميم المواقف الأخلاقية العامة، وذلك بخلاف مواقف الحكومات التي لا تحكمها الأخلاق والمبادئ بقدر ما تتحكّم بها معايير المصالح النفعية المباشرة. وعلى الرغم من التفوق الأخلاقي لمواقف الشعوب إلّا أن النتيجة ليست محكومة دائماً بمن يمتثل للقيم والمبادئ الإنسانية بقدر ما تكون أقرب دائماً لمن يمتلك القوة، وهذا ما تثبته الوقائع التاريخية بدءًا من احتلال فلسطين مروراً باحتلال العراق والحرب الأسدية الإيرانية الروسية على الشعب السوري، وصولاً إلى الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة، إذ إن صيحات الحق مهما علت وارتفعت لن يكون بمقدورها دحر القوة الغاشمة وكفّ سطوة البطش عن الضحايا، وكذلك فإن بيانات التنديد والمظاهرات وجميع أشكال الاستنكار العالمي – على الرغم من أهميتها الأخلاقية والإنسانية – فلا تستطيع رفع الأذى وكفّ الدمار الذي ترمي به الطائرات الإسرائيلية على شعب غزة، وكذلك لن تستطيع إدخال الدواء أو الغذاء او الوقود إلى من هم بحاجة إليه.
لكثير من هؤلاء المحللين لم يعد قادراً على التمييز بين مواقفه الشخصية وانحيازاته السابقة وبين الحدث الميداني الذي يتابعه مئات الملايين من البشر
إلّا أن الموقف الأخلاقي العام الذي يعني التعاطف مع المظلومين والضحايا ومساندة القضايا العادلة هو أمر مختلف كلّياً عن تقييم الوقائع كما تجري على الأرض سواء من جانب خبراء السياسة أو خبراء الشؤون العسكرية، علماً أن مسألة التزام الموضوعية المطلقة هو أمر شبه مستحيل، إذ لا يمكن للمرء مهما ادعى التجرّد والحياد أن يتنصّل من مشاعره وخفايا عاطفته وميوله، ولكن المطلوب في هكذا مواقف هو الموضوعية بمفهومها النسبي، والتي تحافظ على مسافة واضحة بين الموقف الذاتي وبين الوقائع كما تجري على الأرض، ربما ما يدفعنا إلى هذا الكلام هو كثرة المحللين العسكريين والسياسيين الذين يواكبون الحرب على غزة، وبعضهم تتخذ منه القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية مرجعيةً لتقييم الأحداث وتفسير مجرياتها، وكذلك تستند إلى خبرات هؤلاء المحللين في استشراف المآلات التي يمكن أن تؤول إليها الحرب، ولكن واقع الحال يثبت أن الكثير من هؤلاء المحللين لم يعد قادراً على التمييز بين مواقفه الشخصية وانحيازاته السابقة وبين الحدث الميداني الذي يتابعه مئات الملايين من البشر، فينساق وراء ما تمليه عليه رغباته وعواطفه ناسياً أثناء حديثه عبر وسائل الإعلام أنه ليس متظاهراً يهتف في الشارع مناصراً لقضية ما، بل هو محلل أو خبير عسكري أو سياسي، وأنه في عملية تقييم ما يجري ينبغي أن يتعاطى مع موضوعه الذي يتحدث عنه بمهنية تامة ومنطق علمي بأدوات معرفية تهدف لبيان الحقائق وتفسيرها وشرح ملابساتها، وليس الركون إلى ما تمليه عليه مشاعره ورغباته التي يستطيع التعبير عنها في أماكن أخرى، بل لعلّ إصرار العديد من الوجوه الإعلامية على التمسّك بمنطق التبشير سعياً إلى ملامسة عواطف الناس ومشاعرهم وحيازة رضى الجمهور من خلال منطق رغائبي بحت، ما هو إلّا ضرب من التضليل وبيع الأوهام للجمهور، ولعل الخطورة التي يضمرها هذا السلوك تتجاوز مسألة رفع المعنويات والهمم وإشاعة التفاؤل في النفوس، بل هي سلوك يؤدي إلى التعمية وإخفاء الحقائق، وهذا ما ينزاح بالعمل الإعلامي الجاد إلى الحيّز الدعائي والرغبوي الذي يخفي من الأضرار أكثر مما يظهر، ويزيد من مأساة المتابع العربي الذي أصلا هو يعيش المآسي الكبيرة.
الجمهور العربي من خلال تعاطفه مع العراق في الحربين كان يتمنى أن يسمع الأخبار والتحليلات التي تلائم توجهاته ورغباته، وقد وصلت هذه الظاهرة للذروة في معركة الغزو الأميركي للعراق 2003 وسقوط بغداد
لعله من المفيد التنويه إلى أن هذه الظاهرة، أي التحشيد وتهييج الجماهير بدلاً من مقاربة الحقائق، لم تكن وليدة الواقع الراهن، بل تعود إلى عقود من الزمن، ولعل الذاكرة العربية ما تزال تحتفظ بالكثير من الزخم الإعلامي التضليلي إبان نكسة حزيران عام 1967، حيث كان الإعلام العربي وخاصة المصري والسوري يتحدث عن الانتصارات المذهلة على العدو الصهيوني، ليتفاجأ الجميع بعد ستة أيام بالحقيقة المرة وخسارة سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس، وما أحداث ومعارك الحرب العراقية الإيرانية، وعملية عاصفة الصحراء عنا ببعيدة، فالجمهور العربي من خلال تعاطفه مع العراق في الحربين كان يتمنى أن يسمع الأخبار والتحليلات التي تلائم توجهاته ورغباته، وقد وصلت هذه الظاهرة للذروة في معركة الغزو الأميركي للعراق 2003 وسقوط بغداد، في ظل تنافس وسائل الإعلام والقنوات الفضائية التي كانت في أوجها آنذاك حيث جارى الإعلان حينها الجمهور وصار يتحدث بلغة وزير الإعلام العراقي الراحل سعيد الصحاف، ووجِدت طبقة من المحللين نفسها بقصد أو من دون قصد مضطرةً لمجاراة الجمهور ووسائل الإعلام، ما أوقعهم في الخوف من مقاربة الحقيقة بشكل متوازن وعقلاني وغير صادم.
لعل جميع ما يقال عن ضرورة رفع منسوب التفاؤل وشحذ الهمم والحرص على تماسك البنية النفسية للشعب وقطع الطريق أمام موجات الإحباط والطابور الخامس كما يقال، لعل جميع ذلك لا علاقة له بالمطلق بالجانب الإعلامي المهني الذي يختلف جذرياً في خاصيته الوظيفية عن الجانب الدعائي، فالمقاربة الإعلامية ترتقي مهنياً وأخلاقياً وفقاً لتطور أدواتها المعرفية فضلاً عن المصداقية في نقل الوقائع والموضوعية في تحليل الظواهر والأحداث، الأمر الذي يجعلها تكسب ثقة الناس، وهذا هو أول مفاتيح النجاح في العمل الإعلامي.