اللاجئون السوريون الذين أُجبروا على الفرار من بلادهم التي مزقتها نيران الأسد وميليشياته بحثًا عن الأمان في لبنان، يجدون أنفسهم الآن نازحين مرة أخرى في ظل غياب الاهتمام الدولي والدعم الإنساني المأمول وفي بيئة لبنانية أصبحت أقل ترحيباً بهم، وتبدو خياراتهم مؤلمة وصعبة للغاية ويساورهم القلق من مخاطر العودة إلى سوريا غير الآمنة والبقاء في لبنان حيث الغارات الإسرائيلية القاتلة ومشاعر العداء المتزايدة ضد اللاجئين.
لعل الذي جرى ويجري على السوريين في سياق مأساتهم المستمرة يعد من نوادر ما حدث للشعوب عبر التاريخ المعاصر على أقل تقدير، ويضيق الوصف في تجسيد الوجوه الكثيرة لمعاناتهم ابتداءً من قتلهم واعتقالهم وتغييبهم وتشريدهم، وانتهاءً في استثمار تلك المعاناة من قبل أطراف دولية وإقليمية عبر وكلاء محليين يمثلون سلطات الأمر الواقع على امتداد الجغرافية السورية، وعلى رأس هؤلاء الوكلاء السلطة الحاكمة في دمشق. ويبقى التهجير القسري الكابوس الأكثر إيلاماً والأشد تعنيفاً للأسرة السورية، ونحن اليوم أمام مشهد التهجير الثاني لأهلنا السوريين في لبنان.
حيث أدى نشوب الحرب في لبنان إلى خلق ظروف إنسانية صعبة للغاية في بلد معطل وتحكمه الصراعات ويترافق ذلك مع انهيار اقتصادي خانق بالإضافة الى الإخفاق الحكومي على المستويين السياسي والإداري، مما دفع ما يزيد عن نصف مليون شخص بالتوجه نحو الحدود السورية اللبنانية وتشير التقارير الإحصائية بأن 70٪ منهم من السوريين.
هؤلاء الآلاف من السوريين الذين نزحوا من جنوبي لبنان وسهل البقاع والضواحي الجنوبية يجدون أنفسهم الآن بلا مأوى وبدون مساعدة، لا سيما أولئك الذين لا يستطيعون العودة إلى سورية بسبب مخاوفهم من الاعتقال التعسفي أو التجنيد الاجباري.
وهذا التحول الجديد في سياق النزاع في المنطقة فرض على السوريين تحديات إضافية ومستجدة ويأتي في مقدمتها التحدي النفسي والمعنوي، حيث لاتزال ذاكرتهم غير البعيدة تعصف بكابوس هجرتهم القسرية الأولى وظروفها وتفاصيلها، وهذه اللحظة تعيدهم مرة ثانية الى زعزعة استقرارهم النسبي ومواجهة الخوف من المصير المجهول والشعور بالمرارة وخيبة الأمل، والخشية من الدخول إلى سوريا، وما أصعب أن يخاف المرء من بلاده، وما أقسى أن يترك السوري وحيداً يجابه الريح وسط عاصفة من التخلي والخذلان الكبير من دولته ومن منظمات المجتمع الدولي التي تصدح بالشعارات والقيم الإنسانية.
كما يواجه السوريون التحدي الأمني والقانوني والخشية من الاعتقال عند الحدود السورية اللبنانية أو بعد عبورها، ولاسيما بعد أن أكدت الأنباء عن حالات اعتقال لعدد من أوائل العابرين نحو بلادهم الموحشة والمسكونة بالخوف والرعب، وذلك دون الاستناد إلى منطق قانوني أو حقوقي وبدون مراعاة ظروفهم كأشخاص فارين من الحرب وعائدين إلى بلادهم، بالإضافة إلى مخاوف جيل الشباب من تجنيدهم الإجباري في صفوف قوات النظام. ومن جانب آخر يوجد لدى بعض الأشخاص نقص في الأوراق الرسمية والثبوتيات الشخصية وهذا النقص ناجم عن طول مدة نزوحهم الأول وغيابهم عن البلد، مما يزيد من مخاوف تعرضهم للمساءلة والتحقيق.
وكذلك يواجه السوريون التحدي الاقتصادي والذي يتمثل بإجمالي كلفة هذا التهجير، حيث يحتاج كل فرد إلى مبلغ مالي يغطي أجور النقل والانتقال بالإضافة إلى مبلغ (الإتاوة) مئة دولار أميركي لتصريفها في مكاتب قوات النظام كشرط لدخول البلاد، وتلي ذلك كلفة المعيشة من إيجار البيت وكلفة العلاج والغذاء، مع الإشارة إلى أن غالبيتهم العظمى كانت تعيش ظروف نزوح غير مستقرة في لبنان وعلى حافة الكفاف ولا يملكون سعة الإدخار مما شكل هذا التحدي ضغطاً كبيراً يتجاوز إمكانات معظم المهجرين.
ويشكل ضعف إمكانات المجتمع المحلي السوري تحدياً آخراً وليس اخيراً من التحديات التي تواجه السوريين، حيث تشير التقارير المنشورة بأن القسم الأكبر من الذين دخلوا سوريا توجه نحو مناطق سيطرة المعارضة بينما توجه البعض نحو مناطق سيطرة النظام الحاكم، وفي كلتا الحالتين تعاني البنى التحتية والاقتصادية والمجتمعية في سوريا من الضعف والتراجع مما يجعل قدرتها على تقديم الدعم والمساندة محدودة إن لم نقل شبه معدومة، وما يمكن الإشارة اليه هنا هو تلك الخبرة المتراكمة لدى بعض المنظمات التي تعمل في الشمال السوري عموماً وعلى رأسها منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) والتي ساهمت في سرعة ونوع الاستجابة لاحتياجات الواصلين إلى مناطق عملها من خلال تأمين مراكز إيواء وتلبية الاحتياجات الأساسية لهم.
أما في مناطق سيطرة النظام وعلاوة على ضعف الإمكانات المتاحة فقد واجه الواصلون معاملة تمييزية سلبية من بعض سلطات الأمر الواقع والمتمثلة ببقايا ميليشيا حزب الله وإيران في مناطق انتشارها، ولاسيما في حمص ومحيطها في ظل غياب تام لدور الدولة السورية، وهذا ما يعاني منه السوريون الذين نزحوا داخلياً في لبنان من ناحية التمييز في المعاملة.
ويعود موقف المجتمع الدولي مرة أخرى تحدياً ضاغطاً من خلال الاستجابة الباهتة والضعيفة حيال ما يجري، حيث اكتفت بعض منظمات الأمم المتحدة بإبداء أسفها لما يصيب السوريين المهجرين من لبنان، ونشرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين على معرفاتها الإلكترونية فيديو مصور تطلب فيه التبرع لدعم احتياجات موجة اللجوء الجديدة. هذا المستوى الحالي للاستجابة الدولية غير كاف لتلبية احتياجات اللبنانيين لوحدهم وماذا عن السوريين؟ كيف ترتضي تلك المنظمات هذا التوجه التمييزي ضمن نطاق احتياجات إنسانية في ظروف نزاع ومواجهات! وهل هذه فرصة لدفع السوريين بالتوجه نحو مملكة الرعب والاستسلام لقدر اسمه نظام الأسد؟
وفي السياق ذاته لم يسلم السوريون المقيمون في مناطق سيطرة النظام من شظايا هذه الحرب بسبب تواجد قيادات ميليشيا إيران وحزب الله وسط مساكن المدنيين وأحيائهم وذلك بمعرفة وموافقة سلطات النظام الحاكم.
في الختام يمكننا القول بأن السوريين عموماً، وحيثما وجدوا يدفعون فاتورة النزاعات الإقليمية والدولية من خلال إطالة أمد القضية السورية والاستثمار فيها في المزادات السياسية الدولية وتركها بدون حلول.