يستمر الصراع في سوريا متجاوزاً عقداً من الزمن ويأخذ أشكالاً مختلفة، والناتج الثابت من جراء هذا الصراع هو تدهور الحالة الإنسانية إلى مستويات غير مسبوقة وتتفاقم باستمرار، وغدا تهديد الجوع والحرمان يلوح في أفق السوريين الذين أتعبتهم الحرب وهددت أمنهم الغذائي بشدة، ولم يعد شبح احتمال حدوث مجاعة بعيداً عن واقع معيشتهم اليومية إبان أزمتهم المستمرة.
من المثير للقلق والغضب أن الوجبة البسيطة أصبحت بعيدة عن متناول العائلات في جميع أرجاء سوريا، حيث تُظهر البيانات الأممية الجديدة أن النسبة العظمى من السوريين اليوم في قبضة الجوع وتحت ضغط ارتفاع الأسعار وضعف القوة الشرائية وغدت المساعدة الإنسانية بمختلف أشكالها هي الفرق بين وضع وجبة طعام على المائدة والمبيت على الطوى جياعاً في بلادهم المنهوبة.
يقدر تقييم الأمن الغذائي وسبل العيش الذي أجراه برنامج الأغذية العالمي وشركاؤه أن عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد - مما يعني أنهم لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة دون مساعدة غذائية - قد تضاعف في عام واحد فقط ليقف عند 1.3 مليون شخص، وما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة فإن 1.8 مليون شخص إضافي معرضون لخطر الوقوع في حالة انعدام شديد للأمن الغذائي.
ما هي خيارات السوريين؟
لقد شهد العامان الماضي والحالي، ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية في جميع أرجاء سوريا، وارتفعت أسعار المواد الأساسية والنفط ومشتقاته بنسب عالية جداً ورافق ذلك انخفاض قيمة الليرة السورية مما أضعف القوة الشرائية لها وضاعف التحديات التي تواجهها الأسرة السورية. وبالرغم مما هو معروف عن الشخصية السورية من المرونة والقدرة على التدبير والابتكار في التكيف مع متطلبات سبل العيش فإن امتداد فترة الصراع ومنهجية سياسات التجويع والإفقار سلبتها جل مناعتها وأدواتها. أشارت العديد من الدراسات والمسوحات الإحصائية إلى أن غالبية أرباب الأُسّر لجؤوا إلى بيع ممتلكاتهم من أصول مختلفة واستنفدوا مدخراتهم واقترضوا ليولدوا دخلاً يعينهم على العيش هم وأطفالهم، كما عمدوا إلى تناول كميات أقل من الطعام وغيروا في مكونات الوجبة الغذائية، وأعطوا أولوية الطعام للأطفال، وتراجَعَ إقبالهم على شراء الخضار والفواكه بشكل ملحوظ، وأصبح الشراء (بالحبة والحبتين) أمراً شائعاً بين الناس في حين لم يكن هذا السلوك مقبولاً اجتماعياً فيما مضى. والمتكَئ الأخير هو الحوالات المالية الواردة من خارج البلاد وبعض المساعدات الأممية التي لا يصل من جَملها إلا أذنه.
لم يكن هذا المشهد القاتم نتيجة الصراع أو تدهور الاقتصاد فقط ولكن لعبت السياسات المدفوعة بأغراض مختلفة وأبرزها الأغراض السياسية دوراً أساسياً وما زالت في تفاقم الوضع الإنساني وتدهوره، فالحصار وتسليح الغذاء والسطو على المساعدات الغذائية وتدمير البنية التحتية الزراعية، والتدهور البيئي الناجم عن أنشطة اقتصاديات الحرب، جميعها تداخلت وساهمت في إنتاج هذه الأزمة المستمرة في تأمين لقمة العيش.
التجويع سلاح الأسد
لم يتأخر الأسد في استخدام التجويع كسلاح استراتيجي رديف للحصار حيث أقدم على حرمان المناطق التي شهدت مظاهرات مناهضة له وتطالب بالحرية، من الخدمات وقطع إمدادات الغذاء والمياه والكهرباء والغاز والرعاية الطبية، ودمّر البنية التحتية والمرافق العامة من المخابز والمشافي والتجمعات السكنية ومقومات الزراعة وذلك بهدف إضعاف قدرة المجتمعات المحلية على الصمود، ورفع شعار (الجوع أو الركوع)، والبداية كانت من درعا في منتصف شهر آذار من عام 2011 حيث قطع عنها الإمدادات وارتفع أول نداء إنساني آنذاك عبر بيان موقّع من عدد من الشخصيات الفنية والأدبية والاجتماعية يطالب بإيصال الغذاء والدواء وحليب الأطفال وعُرِفَ بـ (بيان الحليب).
واستمر النظام باتباع هذا النهج في الغوطة الشرقية ومدن ريف دمشق الغربي ومدن جنوب دمشق ومخيم اليرموك، وكذلك حي الوعر بمدينة حمص والشطر الشرقي من مدينة حلب، وستبقى مشاهد المعاناة والألم الناتجة عن التجويع محفورة في وجدان السوريين وذاكرتهم، وسيذكر التاريخ بكل سوء كيف حارب هذا النظام مواطنيه البسطاء بلقمة عيشهم وحليب أطفالهم، ولم تسلَم المناطق الخارجة عن سيطرته من هجمات همجية عشوائية بكافة أصناف الأسلحة لتمنع نمو وتبلور أي تجربة لاستعادة الحياة ولو بالحد الأدنى من معاييرها، وكذلك الأمر لم يسلَم الناس الذين يقيمون في المناطق التي يحكمها النظام من سلاح التجويع القاهر لإرادتهم، فقد أطلق يد القلة القليلة من مناصريه من أمراء الحرب والميليشيات الطائفية لتعيث فساداً فيما تبقى من مقدرات البلاد، وترك الناس يواجهون تدهور الظروف المعيشية والاقتصادية بدون تقديم أي دعم أو مساندة، ويطالبهم بكل وقاحة بالصمود والتصدي للمؤامرة الكونية المزعومة، وانقسم المجتمع في الداخل السوري إلى طبقتين، الأولى وهي الغالبية المسحوقة تلهث وراء رغيف الخبز ومصادر الطاقة والتدفئة والمياه والإنارة وتعيش حالة بطالة عن العمل والأمل، والثانية وهي القلة القليلة المترفة والتي تعيش حياة الترف والبذخ بدون أي محاسبة أو مراقبة وبرعاية مباشرة من أجهزة نظام الحكم.
ماذا عن المناطق الخارجة عن سلطة النظام؟
بالتأكيد لا توجد مقارنة بين ممارسات سلطات النظام وممارسات بقية سلطات الأمر الواقع بما يتصل بسياسة الحصار والتجويع كسلاح قاهر للإرادة، ولكن حسب مراحل تطور الصراع وحين انخفضت وتيرة المعارك والمواجهات، برزت مظاهر اقتصاد الحرب في تلك المناطق ولا سيما على صعيد تجارة المعابر والاستثمار في المساعدات الإنسانية والإغاثية، فقد مارست بعض قوى الأمر الواقع هذا السلاح ولكن بشكل مخفف ومؤقت ولوَحت به بقصد التأثير في إرادة الناس وتعظيم مكاسب تجار الحروب، وما زالت حتى اليوم بعض التنظيمات تستخدم سبل العيش ومصادر لقمة الناس كوسيلة للضغط أو التفاوض مع أطراف أخرى.
في الختام نقول بالرغم من أن القانون الدولي الإنساني في مادته رقم (24) من الإعلان العالمي لحقوق الانسان ينص على: (حق كل شخص في مستوى معيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته وتتضمن المأكل والملبس والعناية الطبية) فإن المجتمع الدولي ما زال يغمض عينيه عن هذه الجريمة المستمرة، وهي الكفيلة وحدها بجلب الأسد وعصابته للمحاسبة.