إذا كنت قد شاهدت مسلسلًا بدويًا قديمًا ورأيت محاكمةً قَبَلَيةً تُدعى البَشْعْة، فقد يُخَيَّل إليك أنها لا مثيل لها في عالم المحاكمات البدائية العجيبة. لكنَّ للبَشعة أخواتٍ في أصقاع الدنيا وعلى مر على العصور، وقد ماتت معظم تلك الأخوات، وبقيت البَشْعةُ ساريةً إلى يوم الناس هذا. لا أعرف من أين جاء اسم هذه المحاكمة، التي سنذكرها بشيء من التفصيل لاحقًا، لكن المؤكد أن لها من اسمها نصيبًا. فهي اسم على مسمى.
ما تشترك فيه هذه المحاكمات البدائية هو أنها تُعرِّض المتهمَ – سواء بسرقة أم بممارسة السحر أم بجريمة قتل أم بزنا – لمحنةٍ عظيمةٍ من أجل تبرئته أو تجريمه، وإجراءات المحاكمة قد تستغرق دقائق أو أيامًا معدودةً لا أكثر (بخلاف إجراءات التقاضي الحديثة)، وحكمها مُبرَم، لا يقبل نقضًا ولا استئنافًا من أي من المتخاصمين. أما أدوات الامتحان فهي إما الماء وإما النار وإما السم وإما شيء آخر. وإليكم فيما يلي بعضًا من هذه المحاكمات العجيبة.
في مصر القديمة، كان نهر النيل هو الحَكَم الذي يحدد براءة المُتَّهَم أو ذنبه. فقد كان المُتَّهَم يُلقى في النهر، فإذا غَرِقَ، عُدَّ مذنبًا. وإذا نجا، عُدَّ بريئًا، لأن الآلهة تُنجي الأبرياء، وتعاقب المذنبين. كذلك شاعت في أوروبا في العصور الوسطى محنة الإغراق، ولا سيما في محاكمة الساحرات، حيث كانت المُتَّهَمة تُقَيَّد يداها ورجلاها وتُلقى إما في نهر وإما في بحيرة وإما في بركة ماء. فإذا طفت، فهذا يعني أن الماء رفضها بسبب ذنبها. وإن راحت تغرق، عُدَّت بريئةً، وانْتُشلت قبل فوات الأوان. لكن أحيانًا، إذا غرقت الساحرة وماتت، فهذا يعني أنها بريئة، وإذا نجت من الغرق فهذا يعني أنها مذنبة، وهذا يوجِب الحكمَ عليها بالإعدام – عادةً، بطريقة وحشية. أما في آيسلندا في العصور الوسطى، فكان يؤتى بالمُتَّهَم، ويؤمر بمد يده في قِدْر من الماء المغلي وأن يستخرج من قعره إما حجرًا وإما خاتمًا. واعتمادًا على سرعة استخراج الحجر أو الخاتم، تتعرض يد المتهم لدرجات متفاوتة من الحرق. وبعد أيام تُعايَن يده، وبالنظر إلى سرعة الشفاء أو بطئه يمكن للقاضي أن يحدد إن كان المُتَّهَم مذنبًا أو بريئًا.
***
في إنجلترا الأنغلوسَكسونية (القرن الخامس – القرن الحادي عشر بعد الميلاد) كان المُتَّهَم يُجبَر على الإمساك بقضيبٍ حامٍ من الحديد ثم يمشي به مسافةً معينةً. ثم تُضَمَّد يده، وبعد بضعة أيام، يُعايَن الجرح. فإذا كان قد التأم، فهذا يعني أن المُتَّهَم بريء. وإذا كان الجرح متقيحًا، فهذا يعني أنه مذنب. ومن تاريخ الهند الأسطوري تصف لنا ملحمة "رامايانا" الهندوسية كيف أثبتت النارُ براءة سيتا، زوجة راما. كانت سيتا قد اختطفها راڤانا، ملكُ الجن، وبقيتً أسيرةً لديه مدةً طويلةً. ومع أن سيتا ظلت وفيةً لزوجها طوال مدة أسرها، صارت عِفَّتُها موضع شك بعد تحريرها من الأسر، فاختارت طواعيةً امتحان أغني پاريكشا (أي، محنة النار) المعمول بها في الهند في تلك الأيام (وإن كان على نطاق محدود). فدخلت محرقةً كبيرةً، وبدلاً من أن تؤذيها النار، حمتها، وبهذا أيقن راما أن زوجته نقية عفيفة. أما عند البدو في سوريا والخليج العربي ومصر، فيؤخذ المُتَّهَم إلى قاضٍ يُسمَّى المْبشِّع. وحكمُه نهائي ومقبول لدى المتخاصمين جميعًا. يُحْمي المْبشِّع قطعةً من حديد أو نحاس على النار، ويطلب من المتهم أن يمد لسانه، ثم يمسه مسًا خفيفًا وسريعًا بقطعة الحديد أو النحاس الحامية، وقد يعيد ذلك أكثر من مرة في جلسة المحاكمة تلك. فإذا كان المتهم بريئًا، لم تؤذه الأداة الكاوية، وإن كان مذنبًا ظهرت آثار الحرق على لسانه.
لكن أدوات الامتحان لا تقتصر على الماء والنار، وإنما هناك أدوات أخرى. ففي اليابان، ولا سيما في الحقبة المعروفة باسم هِييان (794-1185)، كانت هناك محاكمة تدعى كُبينو چاوان، أي وعاء القَصْل. في هذه الحال، يؤتى بالمُتَّهَم، ثم يوضع وعاءٌ على رقبته، ويقف السيَّاف على مقربة منه. وحين يضرب السيَّاف رقبةَ المُتَّهَم، يُنظر إليها، فإذا قُطِعت من دون أن يصاب الوعاء، عدُّوا ذلك دليلاً على الذنب. أما إذا أصاب السيافُ الوعاء، ولم يقطع رقبة المُتَّهَم بضربة نجلاء، عدُّوا ذلك دليلاً على براءته. وفي صربيا في العصور الوسطى وأجزاء أخرى من البلقان، كان المُتَّهَم يُعطى قطعةً من الخبز المقدس ويؤمر أن يبلعها. فإذا غصَّ بها واختنق أو وجد صعوبة في بلعها، عُدَّ مذنبًا، بدعوى أن جوف المذنب لا يقبل الخبز المقدس. وفي ليبيريا وسييرا ليون في غربي إفريقيا كانت محنة السم تُستخدم لإبراء المُتَّهَم أو إدانته. فلكي يثبت المُتَّهَمُ براءته لا بد له أن يشرب شرابًا مصنوعًا من لحاء شجرة الساسي السام. فإذا لم يمت، فهو بريء، وإذا مات فهو مذنب. والغريب أن هذه المحاكمات ظلت ساريةً حتى سنة 2009 حين حرَّمتها الحكومة الليبيرية بضغط من منظمات حقوق الإنسان بعد موت سبعة متهمين بممارسة السحر.
وفي قرية رَبْعو، شرقَ مدينة مصياف في ريف حماة السورية، يقع مزارُ الشيخ يوسف بن عفيف الدين، المعروف عند العامة بلقب أبو طاقة، وهو أحد أولياء الطائفة العلوية. وفي أحد جدران هذا المزار طاقة – كُوَّة – صغيرة. وإلى هذا المزار يأتي المتخاصمون – وليسوا بالضرورة من الطائفة العلوية فقط – للفصل في سرقة أو جريمة قتل أو زِنا. يُقْسِم المتهم أمام الحاضرين على القرآن الكريم أنه لن يقول إلا الحق، ثم يُدْخِل جسده في الطاقة مادًّا يديه ورأسه أولاً، ويحاول أن يخرج من الطاقة الصغيرة في الجدار التي تُطل على فِناء المقام. فإذا كان بريئًا، خرج من الطاقة مهما كان جسده ضخمًا، وإن كان كاذبًا، ضاقت عليه وحصرته مهما كان جسده نحيلاً، ولا يستطيع الخروج منها إلى أن يعترف بالحقيقة. فإذا برَّأته الطاقة، سقطت التهمة عنه ورضي المدَّعي بحكمها الغيبي.
***
لكن يبقى السؤال: ما الدافع لهذه المحاكمات العجيبة؟ نستنتج مما سُقنا أعلاه أن هناك دوافع غيبية، وأخرى عملية. فمن الدوافع الغيبية: الإيمانُ الراسخُ بوجود قوى ربانية أو غيبية لا بد أن تتدخل لتُظهر الحق؛ والإيمانُ بوجود قوى خارقة في عناصر الطبيعة كالماء أو النار أو الخبز المقدس (المصنوع أيضًا بالماء والنار) أو لحاء الشجر، والإيمانُ بأن هذه القوى يمكنها أن تُحيي أو تُميت بالحق. ومن الدوافع العملية: انعدام الشهود أو الأدلة المادية التي تُبرئ المتهم أو تُدينه؛ وهذه المحاكمات غير مُكْلِفة نسبيًا أيضًا، كما أنها سريعة، قياسًا إلى إجراءات التقاضي الحديثة، فلا استئناف ولا نقض. إضافةً إلى ذلك، توظِّف هذه المحاكمات علم النفس – وإن بطريقة بدائية – من خلال تعريض المتهم لمحنة حقيقية لعلَّه يعترف بذنبه، خوفًا من المحنة. لذلك يُمكن أن يقال إن هذه المحاكمات هي أدوات بدائية لكشف الكذب.
في تراثنا الإسلامي، هناك مرويات – منها ما هو قرآني، ومنها ما هو حَديثي، ومنها غير ذلك – عن نار لم تُحْرِق، وماء لم يُغْرِق، وماءٍ فيه شفاءٌ من داء عُضال، وسُمٍّ لم يقتل. فبأمر الله، كانت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم حين أراد قومُه أن يحرِّقوه وينتصروا لآلهتهم. وبأمر الله أيضًا، لم يُغْرِق اليمُّ موسى، عليه السلام، وهو رضيع، فنجّاه الله من فرعون، ثم نجّاه من اليم ثانيةً وهو هاربٌ من فرعون وجيشه أيضًا. وبأمر الله، بَرِئ أيوب من دائه العُضال بعد أن أمره الله ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾. وجاء في كتب الحديث النبوي أن يهوديةً من أهل خيبر أهدت إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، شاةً مصليةً مسمومةً، فوقاه الله من كيدها. ويُروى أيضًا أن خالدًا بن الوليد، حين جاءه الجنود المسلمون عند فتح بلاد فارس وهم خائفون من تسميم الفُرس للماء والطعام، ضرب لجنده مثلاً بتناول ذلك الطعام والشراب المسمومين، ولم يضره ذلك بأمر الله!
سؤالنا الأخير: لماذا انقرضت بعض هذه المحاكمات البدائية في بعض المجتمعات، وظلت تمارَس في غيرها؟ انقرضت في المجتمعات التي خرجت من طور البدائية إلى طور التحضر وما يقتضيه ذلك من إجراءاتِ تقاضٍ منطقيةٍ. ولم تنقرض في المجتمعات التي ما زالت تتسم بالبداوة أو في المجتمعات التي لم يكتمل فيها بناء الدولة – لأن هذه الممارسات البدائية من سمات مجتمعات ما قبل الدولة.