عند مشاهدة الصور المنتشرة للوحل والسيول التي تغرق المخيمات في شمال غربي سوريا لا يتبادر للذهن أن تعليم الأطفال قد يكون سبب حرمان بعض المقيمين فيها من فرصة المغادرة لسكن أفضل، لأن بعض النازحين اعتبروا علم أبنائهم أهم الأولويات التي يلزم تأمينها.
لا تخفى مشكلات التعليم التي تواجهها المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام السوري بعد أكثر من عشرة أعوام من الحرب، إذ تكررت البيانات والمناشدات والتحذيرات المتعلقة بمستقبل "جيل ضائع" يواجه خطر الأمية والجهل.
وبعد أن تحول شمال غربي سوريا إلى ملجئ للمهجرين والنازحين من كل أنحاء البلاد، ليتضاعف عدد سكانه، انتشرت مشاريع خاصة متعددة كان من أبرزها المدارس الخاصة، التي كانت جذابة بزينتها ووعودها بتقديم الأفضل.
محاربة للأمية
"لا يمكن أن أترك أولادي أميين"، بهذا برر مصطفى مغلاج، المقيم بخيمة ضمن مخيم "كفرعويد السلاط" في مدينة كللي بريف إدلب الشمالي، سبب استدانته وعمله المستمر لتأمين قسط المدرسة الخاصة بأبنائه، مشيراً إلى عدم توافر مدارس عامة فاعلة قريبة من مكان سكنه.
يرسل مصطفى طفليه، في الصفين الأول والثاني، إلى مدرسة خاصة تبلغ كلفة القسط فيها 25 دولاراً للطفل الواحد شهرياً، في حين يعمل بأعمال المياومة - عند توافرها - بأجر لا يزيد عن 20 ليرة تركية، أي نحو دولار ونصف في اليوم.
ويعاني قريب مصطفى، محمد، المقيم في المخيم ذاته، لتأمين قسط ابنيه أيضاً، في الصف الأول، بقيمة 25 دولاراً شهرياً، وفي المدرسة التحضيرية، بقيمة 15 دولاراً، حسبما قال لموقع تلفزيون سوريا، مشيراً إلى أن مشكلة المدارس العامة بنقص الدعم، هو السبب بالابتعاد عنها.
لم تتح الفرصة لأمينة عبدو أن تعلم ابنيها الأكبر سناً، بسبب الوضع "السيئ" في المخيم، حسبما قالت لموقع تلفزيون سوريا، لذلك بذلت كل ما تستطيع لتأمين تعليم الطفلين الأصغر سناً لتجنبهم الواقع ذاته، معتمدة على عملها تارة وعلى الاستدانة تارة أخرى.
قالت أمينة، الأرملة منذ أكثر من ستة أعوام، إن نقص الدعم الموجه للتعليم في مخيم "طيبة"، الموجود غربي سرمدا حيث تقيم، هو سبب اتجاهها لمدرسة خاصة تدفع قسط الطفل فيها 30 دولاراً شهرياً.
أما بالنسبة إلى معتز بكار لم تكن المدرسة الخاصة حلاً مكلفاً، إذ تكفلت مدرسة "المعرفة"، الموجودة بين مدينتي الدانا وسرمدا في ريف إدلب الشمالي، بتعليم أبناء أخيه المتوفى الذين يرعاهم، وبتعليم ابنته المتفوقة، وفي حين يتبقى لديه قسط طفل آخر، إلا أنه لم يدفع بعد منذ بداية العام الدراسي بسبب عدم تمكنه من إيجاد عمل لتأمينه، حسبما قال في حديثه لموقع تلفزيون سوريا مشيراً لتفضيله التعليم الخاص بسبب "الاهتمام بالطلاب والمتابعة" التي يوفرها.
اهتمام مركز وسط ضياع الدعم
يعتمد التعليم العام على دعم المنظمات الدولية والمحلية، الذي غالباً ما يكون متقلباً أو محصوراً بنسب معينة، لا تغطي كامل الاحتياجات التعليمية في المنطقة المزدحمة، وهذا ما جعل التعليم الخاص جذاباً للمستثمرين المقدّرين لحاجات الأهالي ممن يخشون انقطاع تعليم أبنائهم أو رداءته، حسب رأي مؤسس مدرسة "شام الأصيل" عبد اللطيف زكور.
يقول زكور: "ليست جميع المدارس الخاصة للتجارة، فهناك هدف أسمى وهو تأمين واقع دراسي لطالب انقطع في ظروف الحرب"، معتبراً قسط مدرسته البالغ 25 دولاراً للطفل شهرياً "مريحاً" للأهالي مقارنة بأقساط مدارس أخرى، تصل إلى 50 دولاراً.
وأوضح زكور أن الأقساط تنقسم ما بين تكاليف النقل واللباس المدرسي والمنهاج والحقائب والقرطاسية التي تؤمنها المدرسة لطلابها، ما يترك للمدرسة ربحاً بقيمة خمسة دولارات فقط على الطالب الواحد.
وأضاف زكور أن أهم عوامل جذب المدارس الخاصة هو تقديمها لمواد تدريسية لا تتوافر بالمدارس العامة، مثل الحساب الذهني وقراءة القرآن واللغة التركية.
تقدم المدرسة راتباً مستمراً لمعلميها، من مئة إلى 150 دولاراً، حسب عدد الحصص التدريسية، ولا تأخذ ربحاً من الأيتام وأبناء المعتقلين، حسبما ذكر مؤسس المدرسة، في إشارة إلى خصم تحدث عنه معظم مديري المدارس الخاصة الذين تواصل معهم موقع تلفزيون سوريا، في حين نفاه بعض الأهالي.
وأضافت مديرة مدرسة "الأندلس"، رشا طه، أن "جودة التعليم"، مع المتابعة المستمرة، وتقديم "الترفيه" للطلاب، هي الميزات الأبرز للمدارس الخاصة في المنطقة.
مديرة مدرسة "رحيق العلم"، منال طعان، اعتبرت أن العدد "النموذجي" للطلبة في الصف الواحد، وتوافر الأنشطة المستمرة، مع الاهتمام بالطلاب والأهالي، هي عوامل الجذب الأهم للمدارس الخاصة، حسبما قالت لموقع تلفزيون سوريا، مشيرة إلى أن المدارس العامة، حتى وإن ضمت كادراً تدريسياً جيداً، فإن عدد الطلاب "الكبير" في الفصل الواحد "يؤثر" على التعليم فيها.
منافسة لا تحظى بالأضواء
تحدثت مديرة مدرسة "بنات الدانا"، حميدة قرنفل، عن "ضخامة" أعداد الطلبة التي تضمها المدارس العامة، وقلة الوسائل التعليمية المساعدة للدروس، لكنها تعتبر الكوادر العاملة فيها "الأفضل".
برأي قرنفل فإن "الخبرة" هي سر تقدم المدرس، ولأن المدارس العامة، عكس الخاصة، تحتفظ بمدرسيها لفترات "طويلة"، لذا تقدم "تعليماً أفضل".
وأشارت مديرة المدرسة العامة، في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، إلى أن الإعلام في المدارس الخاصة يلعب دوراً في قرار بعض الأهالي نقل أبنائهم لها على الرغم من الأقساط المادية، كما أن أنشطتها، التي اعتبرتها ترفيهية أكثر من كونها تعليمية، تعد عامل جذب أيضاً.
وبرأي إحدى المعلمات، اللواتي عملن في كل من المدارس العامة والخاصة، والتي طلبت عدم ذكر اسمها خشية فقدان عملها، فإن المدارس الخاصة تهتم بـ "البهرجة" ويحكمها المال وتأمين الإحصائيات الخاصة بعدد الطلاب الناجحين بالامتحانات، أكثر من اهتمامها بجودة التعليم، مستشهدة بخبرتها كطالبة في المدارس العامة أيضاً، وتقول: "لم أجد أحداً من الناجحين مهنياً إلا وقد تعلم بالمدارس العامة".
برأي المعلمة، التي تدرس اللغة الإنجليزية، فإن نقص الدعم وحرمان المعلمين من أجورهم هو سبب تراجع عدد المدرسين العاملين في المدارس العامة وقلة عدد الساعات التدريسية التي توفرها.
وأشارت معلمة للمرحلة الأساسية، طلبت عدم ذكر اسمها أيضاً إلى أن المدارس العامة لا تهتم بالدعاية أو الإعلام في حال توافر الدعم لها، أما المدارس الخاصة فلها اهتمام أكبر بـ "المظاهر".
"المدارس العامة البناء بها قديم منذ أيام النظام، ولا تجديد ولا إصلاحات فيه"، حسبما قالت المعلمة لموقع تلفزيون سوريا، مضيفة أن إيجابية المظهر العام في المدارس الخاصة يقابلها تقييم "غير موضوعي" غالباً للطلبة، مع اهتمامهم بإظهار الطفل على أنه "ممتاز" أمام أهله في سبيل الحفاظ على "الزبائن".
أكثر من مليون طفل، من أصل 1.7 مليون بعمر الدراسة، متسربون من مدارسهم في الشمال الغربي، حسب تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA) لشهر تشرين الثاني الماضي، مقارنة مع 580 ألفاً لعام 2019، ويكون الأطفال المتسربون عرضة لمخاطر الحماية، من العمالة والزواج المبكر.
ويلام نقص الدعم الحاد للمنشآت التعليمة على واقعها الحالي، إذ لا يحظى التعليم سوى بـ 19% من المتطلبات المالية المطلوبة من الأمم المتحدة، منها 6.5 ملايين دولار تم تأمينها و5.2 ملايين تعهدت بها الدول المانحة، وأكثر من 49.7 مليون دولار غير مؤمنة بعد.