لم تنسج الأقمشة كمادة لتغطية وتدفئة الجسد فقط، وإنما هي لوحات فنية تعكس روح الشعب، وثقافته وقيمه وذوقه. فقد عرّف الكاتب والمؤرخ الاسكتلندي توماس كارليل (1795-1881) الأقمشة، في كتابه فلسفة الملابس بقوله: "عندما أبحرت في عالم الأقمشة التراثية، لم أكن أعلم أنني أمخر عباب بحر عميق، يمتلئ باللآلئ والأصداف". ويلفت كارليل إلى ضرورة الانتباه إلى جمال الأزياء ودلالاتها وأهميتها، وهو ما دفع الأعداء إلى سرقتها بحسب كتابه، فقد وثقت الأقمشة والأزياء أحداثا تاريخية على غرار البروكار أو الحرير الدمشقي. وهو من أشهر الأقمشة في العالم، وأقدمها، وأجملها، وأغلاها، وأجودها، إذ يعكس روح وثقافة وذوق أهل مدينة دمشق، وتطور هذه الروح والثقافة والذوق، على مدار آلاف السنين.
نقوش ورسوم من التراث الشعبي والعالمي
المكون الأساسي لهذا القماش، هو الحرير الطبيعي، مضافاِ إليه خيوط من الذهب والفضة، المضافة إلى الحرير على شكل نقوش وزركشات، بعضها مأخوذ من التراث الشعبي القصصي القديم كقصة أبو زيد الهلالي والزير سالم، وبعضها الآخر مأخوذ من التراث الإسلامي كالرسوم الهندسية، وأخرى مأخوذة من التراث العالمي كروميو وجولييت، أو من التراث الصيني كنقش المروحة، إضافة إلى نقوش أخرى يطلق عليها تسميات عدة مثل "القارب الإغريقي" و"الخيط العربي" و"الموزاييك" و"البقلاوة الشامية" ونقش "الفراشة" المكون من سبعة ألوان، وكان النساجون أحياناً يقلدون النقوش الموجودة على جدران وسقوف المنازل الدمشقية القديمة والأماكن الاثرية.
وينسج "البروكار" الدمشقي من خيوط الحرير المأخوذة من دودة القز التي تربت على طرفي مجرى نهر العاصي وبعض قرى الساحل، حيث توجد حاضنتها الطبيعية من أشجار التوت. وكانت الخيوط تنقل إلى حلب، حيث تغزل (تعالج وتبرم وتلون..) ثم تنقل إلى دمشق لتنسج. وعند الحاجة، كان الدمشقيون يستوردون الحرير الطبيعي من الصين.
وتحتاج حياكة البروكار الدمشقي لمهارة كبيرة، وصبر أكبر، فهي عملية يدوية، تتم على الأنوال الخشبية، ويتطلب إنتاج المتر الواحد من البروكار يوم عمل كامل، من 10 ساعات متواصلة.
لكن النتيجة تستحق كل هذا العناء والصبر، إنها قماش فاخر يتباهى بلبسه الملوك والأمراء والنبلاء وأثرى الأثرياء، ويوضع كزينة على جدران أفخم القصور والبلاطات الحاكمة في العالم.
إليزابيث الثانية والبروكار الدمشقي
من أشهر الملكات اللاتي أبهرن بالبروكار الدمشقي وارتدينه، الملكة ماري أنطوانيت زوجة ملك فرنسا لويس السادس عشر الذي سقط عام 1789، وملكة بريطانيا إليزابيث الثانية التي لبست منه ثوباً في حفل زواجها عام 1947 من الأمير فيليب. ولبست ثوباً آخر في حفل تتويجها كملكة عام 1952. وصمم الفستان حينئذ المصمم العالمي نورمان هانتيل.
وقال هانتيل واصفاً عملية اختيار القماش والتصميم "بعد جمع كل المواد الواقعية التي استطعت، بقيت في عزلة في وندسور فورست (منطقة) وهناك أمضيت عدة أيام في إعداد الرسومات التجريبية.. كان عقلي يعج بالأفكار النبيلة والزهرية فكرت في الزنابق والورود والمارغريت والذرة الذهبية.. فكرت في أقمشة المذبح والأثواب المقدسة فكرت في السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم وكل شيء سماوي يمكن أن يطرز على ثوب مقدّر له أن يكون تاريخياً فكان ذلك"، بحسب ما نقلت مجلة فوغ.
وكان الرئيس السوري شكري القوتلي هو الذي أهدى الملكة إليزابيت قطعة من قماش البروكار بالغة الجمال، من نقشة العاشق والمعشوق التي صار اسمها لاحقاً "نقشة الملكة إليزابيث"، وهي تتكون من أرضية بيضاء عليها نقشة عصفورين متعانقين، وعلى جناحي الطيرين خيوط من الذهب عيار 12، فتنت إليزابيث بها وحولتها إلى ثوب عرسها.
كما ارتدته وتفاخرت بلبسه ملكة الأردن رانيا العبد الله، وارتداه ووضع عليه النقش الكنسي البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. واختار منه الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان ربطة عنق له، أما الملك فهد فوضع منه على جدران قصره في الرياض قطعة بمساحة 112 متراً مربعاً.
ويُزعم أن خزانة ملابس زنوبيا ملكة تدمر كانت مليئة بالأقمشة والفساتين الدمشقية المصنوعة من البروكار عندما تم أخذها أسيرة إلى روما بعد هزيمتها ضد الإمبراطور أورليانوس (272 قبل الميلاد - القرن الثالث).
وورد ذكر كلمة ديباج دمشقي لأول مرة في أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر في البلاط الفرنسي. ويقال إن الملكة الفرنسية ماري أنطوانيت، زوجة الملك الفرنسي لويس السادس عشر، كانت مولعة بالديباج الدمشقي وإن خزانة ملابسها تضمنت ما لا يقل عن 72 فستانًا دمشقيًا.
ويقول الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" عن حرير دمشق: "إن أنواعه تتعدى الأربعين نوعا، أفخمها يسمى الديباج، وهو الذي يضاهي أفخر أنواع الحرير في بلاد الدنيا مثل الصين وغيرها".